‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصص قصيرة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصص قصيرة. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، 27 يونيو 2017

حيز واسع من الهشاشة








محمد جيجاك

    
لا أعلم إن كان تاريخي الشخصي أسود أو أبيض أو رمادي أو لا شيء!
ما أعرفه أنني أربعون عاماً في وطني كنت مضموم الحراشف كسمكة ميتة
كنت أجيد الابتسامات الرمادية وأرميها بسخاء لكل عابر بي، مفترضاً أنّ ابتساماتي تفي بأغراض كثيرة، منها.. تعفيني من الثرثرة والخوض في التفاصيل الممّلة حين سرد حكايات فاقعة بأحداثها.
في أعوامي الأخيرة صرتُ أقود شرودي المستحوذ على كل أوقاتي للغوص في عتم ذاكرتي، بالأمس مساءاً وأنا جالس قرب نهر صغير تخترق غابة متعددة بأنواع أشجارها، راقبت سنجاباُ يقفز من حجرة لأخرى بلا هدف، أو خيّل لي أنه يفعل ذلك بلا هدف، فجأة أبصرتُ رأس الخيط في ركن قصيّ من ذاكرتي، سحبتُ الخيط حتى آخر النفق المعتم، لأكتشف أنّ سجّلي الشخصي مليئ بالبلاهة واللاهدف والسمّو الخلّبي.

***
للكلمات الدّالة حلقات وصل، طوبى لمن نسج بها حبل مشنقته
***
لو كان لي حلم لسعيتُ إلى تحقيقه، وأرحت كل أصدقائي من ثرثراتي .

***

ما زلت أندهش من قاضٍ يصدر حكم الإعدام بحق انسان حيّ !

***
حين تكون وسط غابة وبلا بوصلة، كل الجهات تعني لك الشمال

***
حين نزحتُ من بيتي وللأبد، لم أودّع أحد
وقفت في منتصف الشارع مثل أبله يدوّر رأسه كحرباء لعلِّي أُبصرعابراً ألوح له
كان المطر غزيراً جداً وصوت الرصاص أيضاً
تفاجئت بأنّ الذين كنت أحبهم من جيراني كانوا يحبّون اللعب بالرصاص أكثر من حبهم للمطر !
  


وحي برائحة العَفَن


                                                   
                                                
           

    - محمد جيجاك -


قبل اسبوعين اجتاحتني موجة من الاحباط الغبي، الواسع النطاق، شردتُ ليومين، استحال ذهني لفضاء مليئ بالهواء الساكن، لم أستطع أن أعثر فيه عن معلم أفسّر به احباطي. تحسّست جسدي إذ يَرشَح من مساماتي سائل له مذاق غريب، قريب من مذاق العنب على تخوم تعفنه !
 بعد صفنة طويلة فجأة خطر لي كتابة رواية.
 يقال: الإحباط بلا سبب واضح قد يكون تراكم لشحنات ابداعية يتعثر المرء في إفراغها ؟
 تزامن التفسير الأوليّ لسبب احباطي  مع رأي شائع حفظته عن أصدقائي الكتاب والفنانين “من الألم تولد الكتابة”، وبعضهم، الأكثر تثاقفاً، كان يقول “ القلق أرض خصبة للإبداع”.
 قبل البحث عن فكرة الرواية المزمع كتابتها، جهّزت غرفة خاصة بمعدّات الكتابة. أرغمتُ ابنتي على إعارتي طاولة دراستها، أقنعتها بكتابة وظائفها على الأرض، كما كنا نفعل ونحن صغاراً في بلادنا، أعطيتُ ابني ذو العشر سنوات ثمن بلايستيشن كي يتخلى عن دوره الثلاث ساعات في اليوم لإمتلاك الكمبيوتر المحمول الوحيد في البيت، ترجيت زوجتي لساعة حتى أقنعتها أن تترك لي الغرفة وتنام في غرفة أحد ولدينا، صنعتُ درباساً محكماً لباب غرفتي، بحيث يمكنني قفله من الداخل، كي أكبح فضول زوجتي في استطلاع وحدتي بين فترات متقاربة. 
في اسبوع واحد كتبتُ أربعين ألف كلمة، من حيث لا أدري تدفقت المفردات كسيل عارم على صفحات "الوورد" أمامي، جارفاً في الوصف المتألق، كل الضحل الطافح على مخيلتي، وأيضا الأكثر ضحالة في خفاء لا شعوري. شخصيات روايتي ناس واقعيون بالمطلق، عشتُ معهم في كل مكان، سافلين، مبتذلين، منحطين، القليل منهم طيبين. عملتُ على عكس ما يعمله الكتّاب الكبار، لم أقتفي فرص احتدام المواقف في الأحداث، لأطلق موعظة أخلاقية، تكشف نبالة غايتي من الكتابة الأدبية، تركتُ شخصياتي تقول ما تشاء، كأنهم على مركب بلا مقود ولا مجاديف، في وسط البحر.
 أغلقتُ صفحة " الوورد " بعد حفظها في ملفّ سرّي للغاية، ثم رحلتُ في نوم عميق لأستقيظ بعد يومين، معوّضاً ما فاتني من نوم كافٍ خلال اسبوعي الإبداعي بإمتياز. تجسست أحوال جسدي، وجدته مرتاحاً، صاحياً، نشطاً، مخيلتي خالية بالمطلق، لا فصاحة لصور ولا ضباب يحجب عني المشهد. تأملتُ طويلاً بياض الثلج عبر النافذة، كان بياضاً فحسب، لا يحيلني لأي معنى آخر، حتى برودة الثلج من خلف زجاج النافذة لم أشعر بها، كما كنت أشعر بها قبل كتابة الرواية!
قبل إعادتي معدات الكتابة لأصحابها، دعوت زوجتي للدخول لأخبرها بفرح طفولي أنني أنجزتُ رواية من 200 صفحة بمقاس A4. ابتسمت زوجتي بلامبالاة وقالت: كان عليك فتح نافذة الغرفة، رائحة عفن السجائر والقهوة لوّثت كل محتويات الغرفة؟  أغلقت الباب في وجهها، عدتُ لروايتي منكسر الخاطر من أول قارئ مفترض، سخر سلفاً مما أنجزته، حتى قبل قرائته.
في أول مراجعة لما كتبته خلال اسبوع حذفتُ عشرين ألف كلمة، سخرتُ من نفسي قائلاً: من أين أتتني كل هذه الثرثرة؟ رغم أنّ كل عابر بي يصفني بالرجل الصامت!
في المراجعة الثانية حذفتُ عشرة ألاف كلمة. لم أأسف على هدر تعب سبع أيام، تذكرتُ حكاية فيكتور هيغو بأنه أعاد كتابة الفصل الأول من روايته البؤساء مائة وأربع عشرة مرة حتى استقام به المعنى المراد. إذاً من أنا حتى أبخل بحذف كل ما لا معنى له ؟
في المراجعة الثالثة حذفتُ خمسة ألاف كلمة. امتلئت سلّة المهملات بالكلمات الشاعرية وأسماء شخصيات ثانوية، حتى أسماء نساء جميلات ومثيرات. شعرتُ أنني حين كتبت كل هذا الهراء كنت مسلوب الوعي لصالح اللاشعورالابداعي الذي تحدث عنه أصدقائي المبدعين!
 في المراجعة الرابعة حذفتُ كل شيء، أبقيتُ على العنوان فقط. تأملتُ العنوان ليوم كامل، عبثت بترتيب مفرداتها، تقديم، تأخير، وهكذا حتى  بزوغ الفجر، قررتُ إنهاء المهزلة.
 نشرتُ العنوان على صفحتي الفيس بوك “ كائن لا يحتمل صمته، لا في احتشاد الكائنات حوله ولا في عزلته”
بعد دقائق من استقطاب المنشور بضع لايكات من المعجبين العميان كتب أحدهم لي  تعليقاً :
- منشورك مقتبس..لا بل مسروق بطريقة مشوّهة

                                                                    



المثقف سنكلوز




                           
                                                                 
       

      محمد جيجاك





تأبط كتاباً ضخماً وجرّ الكرسي البلاستيكي خلفه، اختار مكاناً مكشوفاً لكل عابر في صالة كامب استقبال اللاجئين المزدحم. رمى رجلاً فوق رجل، قلّب الكتاب مستعرضاً العنوان للمارة اللامبالين - سياسة الاستعمار في شرق الأوسط - فتح الكتاب لا على التعيين على صفحة ما في المنتصف، ضبط نظّارته الأنيقة على مسافة مناسبة، ثبّت نظره على صفحة الكتاب موحياً لناظره أنه مستغرق بالقراءة، كلّما مرّ بجانبه أحد رفع نظره ليتلصص عليه من فوق النظارة المنزلقة حتى نصف أنفه، إذا كان المارُّ موظفة في ادارة الكامب رفع رأسه ورماها بابتسامة مجانية، ترد له الموظفة الابتسامة وتعبره دون مبالاة بمشهده الشاذ في صالة الكامب، داهمه شعور احباط مؤقت من عدم تحرش الموظفة به، على الأقل سؤاله عما يقرأ، أو استفسار عن طبيعة عمله في وطنه!.


جاءت إليه زوجته قائلة:


- يجب أن تذهب للاصطفاف في الدّور سيوزعون الرواتب


نظر إليها مستهجناً طلبها، قال آمراً :


- اذهبي أنتِ واقبضي الراتب عن كل العائلة


- الذين في الدور كلهم رجال من جنسيات مختلفة !


حدّق في وجهها مغتاظاً من ردّها، قال حاسماً الأمر:


- اذهبي لا يمسّكِ أحد بسوء، تعرفين جيداً في الكامب بعض أهلنا في الوطن، ليس لائقاً أن يروني في الدّور لأجل راتب تافه.


طأطأت الزوجة رأسها، مستسلمة لحجته الوجيهة، ذهبت للإصطفاف في الدور بين الرجال، حفاظاً على مكانة زوجها السياسي والاجتماعي، فهو مثقف وطني معروف على امتداد قريته وبضع قرى مجاورة في الوطن الذي هرب منه بألف توسل.


عادت الزوجة إليه تخبره أنهم اقتطعوا من راتبه عشرين فرنكاً، غرامة على تدخينه السجائر لمرتين في الغرفة. صُعق الزوج المثقف بجدية تنفيذ العقوبة بحقه، اعتقد أن التهديد الذي تلقاه في المرة الأولى لتدخينه في الغرفة كانت مزحة عابرة من الموظفة، ثم راتبه بالأصل اثنان وعشرون فرنكاً في الاسبوع، فلا يُعقل أن يخصموا كل راتبه! كيف سيشتري السجائر الآن ؟!


تناول راتب العائلة من يد زوجته وأمرها :


- اذهبي لدور توزيع وجبة الطعام


- لا أستطيع وحدي جلب الطعام للعائلة كلها


- حين يأتي دورك سأرسل الأولاد لمساعدتك


- سآخذهم معي لينضموا إلى الدور


عادت الزوجة بدون وجبة زوجها المثقف، انتفضَ المثقف في وجهها موبخاً شخصيتها الضعيفة وسوء ادارتها لأمورها. ردّت الزوجة باستكانة:


- لم يقبلوا تسليمي وجبتين معاً، قالوا، فليأتي زوجك بنفسه ويستلم وجبته


جال المثقف بنظره على وجبات أولاده وزوجته، اقترح عليهم أخذ لقمة من كل وجبة، كي يعفي نفسه من إهانة الوقوف أمام المطبخ في يده صحن وملعقة وشوكة. رضخ الأولاد وزوجته لمشيئته وتبرعوا كل منهم بلقمة له.


في صباح اليوم التالي كالعادة اتّخذ المثقف مكانه المعلوم في الجلوس وقراءة كتابه الضخم. لمح دنو الموظفة نحوه مباشرة، في يدها مصنف كبير وتنظر إليه بتركيز، تسارعت دقات قلب الرجل المثقف، استبشر خيراً من الاعتراض الذي قدمه في الأمس على حسم راتبه بالكامل. ألقت الموظفة عليه التحية، قفز الرجل المثقف من جلوسه كمن حظي بجائزة على غفلة، لغلغ بكلام مبهم رداًعلى التحية، لم تفهمه الموظفة السويسرية، سألته الموظفة :


- أنت السيد سنكلوز ؟


- يا..يا


- اليوم دورك في غسيل المنافع الصحية، اعطي الكتاب لزوجتك وتعالى معي...
































- 2 -













التمس القارئ دموع سنكلوز تنضح من الكلمات التي بها يصفُ صور الأطفال تحت أنقاض القصف الأخير لبلدته التي هرب منها حين احتاجت ثقافته لتخطي محنتها. كتب شعراً، كتب نثراً، كتب مقالاً سياساً أتخمها بعبارات توبيخية شديدة اللهجة بحق القادة السياسيين والعسكريين المحلين والعالمين. تلقى سيلاً عارماً من المديح على نقاء مشاعره الإنسانية، بتعابير متباينة وتدرّجات في ركاكة اللغة، حيث الأغلبية الساحقة من المعلّقين لا يجيدون القراءة والكتابة، لكنهم يشعرون بألم مشاعر الاستاذ سنكلوز. مع هطول الظلام في أول المساء كبس زر جرس الخَدم المثبت تحت طاولة الكمبيوتر، دخلت زوجته بعد طرقها الباب والاستئذان بالدخول، لم يشأ أن يقطع تأمله للصور المؤلمة على الشاشة أمامه، أمرها دون أن يلتفت إليها:


-أحضري لي كأس نبيذ مع المكسرات


- لكن أنت لم تأكل شيء منذ الصباح


- فقدتُ شهيتي وأنا أتابع هذه الصور الفظيعة لأطفال بلدي


أحضرت الزوجة ليتر النبيذ الأحمر مع صحن صغير من اللوز مع بضع رسائل مفتوحة من البريد اليومي وقالت:


- هل من أوامر أخرى استاذ سنكلوز ؟


لا تستغربوا أن تنادي زوجة زوجها بلفظة الاستاذ قبل نطق اسمه، حتى أولاده إن صادفهم أحد وسألهم أولاد من أنتم؟ ردّوا بنبرة واحدة بفخر واعتزاز " أولاد الاستاذ سنكلوز". نطق كلمة استاذ في العائلة فرض وليس سنة. في أول اسبوع من وطأه بلد اللجوء التقى بصديق قديم لم يره منذ قبل أن يضاف كلمة الاستاذ لاسمه كوحدة لا تتجزأ، صاح به فرحاً:


- كيف الحال سنكلوز؟ بعد زمان سنلتقي صدفة ونتعاون على تنظيف مطبخ الكامب، تصور يا رجل كم العالم صغير !


نظر إليه سنكلوز مغتاظاً، كتم حنقه من سذاجة صديقه المنسي، قائلاً في نفسه " من أين ظهر لي هذا الصعلوك؟ يبدو أنه لم يسمع بالمكانة الاجتماعية التي أشغلها الآن !" ابتسم بمرارة وجامل صديقه ببضع عبارات عابرة. في المساء كتب منشوراً طويلاً على صفحته الفيس بوك شارحاً فضائل العادات والتقاليد المتحلية بالقيم والأخلاق، لا سيما بند احترام الكبير سناً والكبير عقلاً، وختم المقال بتوضيح مبدع "من أسباب عدم نيل شعبنا الحرية هو الحطّ من مكانة عظماء هذه الأمة ".


تناول الرسائل وسأل زوجته عن فحوى كل رسالة طالما هو لا يفهم اللغة الألمانية، شرحت الزوجة حسبما قالت لها الجارة العراقية القديمة في لجوئها:


- هذه للتبرع لمكافحة مرض الايبولا


رما سنكلوز الرسالة جانباً باستهتار


- وهذه ؟


- للتبرع لأطفال أنغولا


مزقها ورماها أيضاً في سلّة المهملات تحت الطاولة


- وهذه التي عليها صورة امرأة زنجية تُرضع ابنها ؟


- هذه للتبرع لجنوب السودان


شعر بالحمق، وقال مستغرباً مستهجناً :


- ألا توجد رسالة تبرع لأطفال سورية ؟


ابتسمت الزوجة وقالت بمكر :


- ان كنت ترغب بالتبرع لأطفال بلدك فلست بحاجة لرسالة


حدّق في وجه زوجته قرأ في عينيها نفاقه الطافح، أمرها بالخروج واغلاق الباب خلفها:


- اكتمِ شغب الأولاد، لدي لقاء مباشر على السكايب مع قناة تلفزيونية





























- 3 -













صدفة سمع سنكلوز أن صديقه القديم الفار من البلد هو عضو في لجنة تحضير مؤتمر للأدباء، بعث له عشرات الإيميلات، مدون فيها مطولات تذكِره بالصداقة القديمة بينهما وبالأمسيات الأدبية التي حضراها سوياً، وبضع طرائف هنا وهناك، ويختم ايميله بكيل من المديح الباذخ لدماثة خلقه، وظرافته، ثم يطلب منه برجاء ولغة فكهة، ادراج اسمه في قائمة المدعويين للمؤتمر المزعوم. ماطل صديقه في الردود بعد كشف نوايا سنكلوز ودواعِ مراسلاته المكثفة له، متحججاً أنه لا يملك الوقت الكافي للرد عليه، شهر كامل ولا يستطيع صديقه نطق كلمة نعم أو لا بسبب الاحراج ! فقط كان يردّ بعبارة واحدة على كل رسائل سنكلوز “ سنرى ما سيحدث وسأخبرك لاحقاً “، ثم يتجاهله عسى يستيقظ فيه نخوة الإحساس ويتوقف عن بثّ رسائله التوسلية. استنفد كل الحيل المتاحة لإفهام سنكلوز بشكل غير مباشر أنه ليس أهلاً لحضور هكذا مؤتمر. فكتب له أخيراً رسالة قصيرة متضمنة إهانة طفيفة :


- حسناً.. سأضيف اسمك لقائمة المدعوين لكن اللجنة التحضيرية لن تتكفل بمصاريف تنقلاتك والاقامة لمدة اسبوع


طار سنكلوز من الفرح، وثب إلى حيث زوجته التي كانت على بعد خطوتين منه تكنّس غبار الصيف أمام عتبة الباب، وأخبرها بسرور طفل حصل على لعبة كبيرة:


- سأذهب إلى مؤتمر الأدباء


لم تتوقف زوجته عن كنسها الغبار، قالت بلا مبالاة:


- أخيراً استجاب صديقك لتوسلاتك.. مبروك


لم يكترث سنكلوز لجفاء زوجته، فهو يعرف أنها الوحيدة تعرف تدابيره الخفية وسبله الوضيعة للظهور تحت الأضواء. فتح سنكلوز صفحته الفيس بوك وكتب :


( هذا الصّباح تلقيتُ دعوة لحضورِ مؤتمر الأدباءِ والمثقفين المستقلين الأحرار. جزيل الشكر للّجنة المُنظِمة لاتباعها المعايير المهنية الدقيقة في ارسال الدعوات لنخبة منتقاة من الشريحة للمثقفة الواسعة في الوطن).


ثبّت سنكلوز صفحة منشوره على شاشة اللابتوب وراح يرد على تدفق التهاني في التعليقات على خبره. علّق أحدهم “ لتكن صوتنا المقهور في المؤتمر، أنتم أمل هذه الأمة في الخلاص من الظلم والاضطهاد” غُمر سنكلوز بسعادة لا توصف، تخيّل نفسه منطاداً معبأ بهواء ساخن يجوب سماء الوطن.


رمق زوجته من الخلف، تأمّل مؤخرتها المترجرجة تحت فستان فضفاض، استيقظ في داخله رغبة مفاجئة لركوبها، كبح رغبته وتودد إليها قائلاً :


- بعد اسبوع سأسافر، سأبقى اسبوع وأرجع، ماذا أجلب لك من ذاك البلد ؟


رفعت زوجته رأسها، استدارت إليه، حدّقت فيه للحظات وقالت بتحدّ :


- لم يبقى لدي سوى سوار واحد، لن أبيعه لتسافر بثمنه


ضحك سنكلوز ضحكة ثعلب وقال :


- ألا تعلمين ..هناك سيكافئون كل من يحضر المؤتمر بمبلغ محترم


قهقهت زوجته وردّت بسخرية تذكِره بوعوده السابقة :


- كان لدي ثلاث أساور، الأول بعته لتطبع بثمنه قصصك في كتاب، فلم تبع من الكتب سوى خمسة، والثاني بعته لتشتري مكتبة خشبية مستعملة ومائة كتاب من القياس الكبير لتزين بها غرفتك وتتباهى أمام ضيوفك المثقفين، والآن ستذهب إلى المؤتمر الذي لم يدعونك إليه أصلاً ..


شعر سنكلوز بجبل من ثلج انقلب على جسده الضئيل وطمر حتى حلمه في تبوء المنبر هناك، تجمّد الدمّ في عروقه، عصر أصابعه يسدّ الطريق أمام نوبة هستريا على وشك الظهور، أراد أن يقفز إلى عنقها ويخنقها ببطء حتى يشفي غليله من استخفافها به.


تركها وذهب لأمه التي كانت تطحن الحنطة في وسط الدار، تملقها ببضع عبارات مجاملة، سألها عن أحوال القرحة في معدتها، حدّقت أمه في وجه مستغربة لطفه المفاجئ، عادت لعملها وقالت بإنكسار:


- ما دام زوجتك مستمرة في بلادتها ستبقى معدتي متقرّحة


وثب سنكلوز مثل هارون وسألها مستفسراً :


- زوجتي هي سبب ألم معدتك، ماذا حدث؟ ..حسناً


هرع إلى زوجته، نهرها في ظهرها آمراً :


- اذهبي إلى أمي حالاً، اسأليها ماذا تريد منك فعله





بحلقت زوجته في عيني سنكلوز مباشرة، غرغر الماء في عينيها، رمت المكنسة من يدها، سلّت السوار الأخير من معصمها الأيسر، ناولته إياها دون أن تنبس بكلمة.




















- 4 -













بعد منتصف الليل فزّ من نومه كما فزّ أرخميدس من حوض الماء وصاح " وجدتها " إلّا أنّ سنكلوز لم يصيح خوفاً من أن يوقظ زوجته التي تنام بسلام بجواره. بعد شهور من التفكير في حلّ معضلة فشله على تحقيق حضور شعبي واسع، بعد فشله في تحقيق حضور أدبي لافت. من لدن حلم غامض استوحى سنكلوز بأن سبب فشله هو افتقاره لوسائل تسويق نفسه على أوسع نطاق شعبي، فطباعة مائة نسخة لا تجلب الشهرة التي يحلم بها، ولا سيما ما كتبه لم يجذب من القراء سوى أصدقائه المقربين. تفقد أحوال زوجته كانت غارقة في نوم عميق لا مبالية بهمه. أشعل سيجارة أرخى رأسه على المخدة وصفن في سقف الغرفة، يقلّب في رأسه مقترحات كثيرة لتأمين سوق واسع لترويج نفسه أديباً وسياسياً لامعاً. أقوى المقترحات تصدّر ذهنه أن يعود للإنضمام لحزب سياسي، هناك سيجد جمهوراً كبيراً، مرغماً على قراءة منتجاته الأدبية، حتى لو كانت بلا قيمة أدبية وفنية، سيطعّمها بالمفردات الوطنية والعواطف القومية، بدل الدعوة للحرية الفردية المنبوذة، التي لا تجلب له سوى نفور الناس من كتاباته. كل ما يلزمه الآن هو اختيار أي حزب سياسي واعلان التوبة عن دعواته السابقة للإنفلاشية البريسترويكية والعودة للالتزام بقيم المجتمع التي تربى عليها. جلب ورقة وقلم، كتب أسماء الأحزاب التي لها حضور واسع في الساحة.


- هذا حزب كبير جداً لكنه صارم في التنظيم والعقيدة، شطبه من قائمة الخيارات.


- هذا حزب لا بأس بكبره، لكن ينتمي إليه ابن عمي وهو يكرهني ويعرف ألاعيبي. شطبه من القائمة أيضاً.


- هذا الحزب مقبول، له جمهور تقليدي واسع.


- هذا حزب نشط بين الشباب المتعلمين.


- هذا حزب لديه مثقفين كثر، معروفين.


انتقى سنكلوز ثلاثة أحزاب لاجراء عملية الاقتراع عليها. كتب اسم كل حزب على ورقة صغيرة، ثنى الوريقات الثلاث بعناية، خفقها في كفّيه ورماها على الأرض، تأمل الوريقات الثلاث، أي ورقة سيختارها، يمين ..يسار..أم الوسط ؟ أغمض عينيه وشلف يده بعشوائية ليتناول ورقة اليسار، فتحها، قبض حاجبيه محبطاً من حظّه السيء لخيار حزب المثقفين، قال في نفسه باستياء : كيف سأناطح هؤلاء الفطاحل حتى أثبت حضوري بينهم؟ التفت لمكتبته الأنيقة على الجدار خلفه، المحتشدة بالكتب السميكة، إلّا أنه لم يقرأ منها - بالكاد - سوى الكتب النحيلة. حسناً .. سأضع برنامجاً صارماً لأقرأ كل الكتب السميكة.


في اليوم التالي نصحه مسؤول حزب المثقفين ردّاً على طلب انتسابه :


- أنت مثقف حرّ، ما لك وللأحزاب السياسية! أنصحك بعدم التورط في أي نشاط حزبي، كي لا تفسد ابداعك


ابتسم سنكلوز بحبور على الاطراء الذي تلقاه، إنما في داخله شعر بلدغة سخرية ما طالته، تجاهل السخرية المبطنة في نصيحة المسؤول، اجتاز أول اختبار بنجاح ليكون رجل سياسة، بأن يتقبّل الإهانات بصدر رحب ووجه بشوش :


- إذن .. أنتم لستم بحاجة لمثقفين ؟


ردّ المسؤول :


- المثقفين الأحرار أمثالك لسنا بحاجة لهم


خرج سنكلوز من عند مسؤول حزب المثقفين وذهب مباشرة لبيت مسؤول حزب الوسط التقليدي. لقي طلبه ترحيباً حاراً من المسؤول العجوز. ولأن سنكلوز يمتاز بذكاء المصلحة ودهاء قنص المواقف في المياه العكرة واستثمارها لصالحه، استغل حفاوة المسؤول به وقال طالباً بحزم :


- أريد مقابلة قياديّ في الصف الأول للحزب لمناقشة أمر انتسابي، كما تعلم أنا مثقف جاهز ولست نفراً من الشارع.




























        

تشييع ابتسامة

                            
                                           


                                                                                 محمد جيجاك

المرأة العابسة نعش الوقت، إن زارت حديقة فرّ الخضار من الشجر، تعرّت الورود من ألوانها، تحول المكان لمقبرة. تلك المرأة المتواجدة بكثرة، أينما صادفتها أدرت وجهي عنها:
 في مطبخ البيت، فقدت شهيتي للأكل
 في غرفة النوم، تتحول شهوتي الجنسية لكتلة بوظ تسير في دمي
 كلّما مرّت من أمام شرفتي، انقلبت إطلالتي لمشهد مغبّر بلا تفاصيل
 إن جلست على المقعد المقابل لي في القطار، استغرق القطار دهراً حتى المحطة التي أريدها
 في مكتب العمل، كلما التفتُ إليها بجواري قرأتُ أسماء موتى الكوميديا على شاهدة وجهها
على شاطئ البحر مساءً، مرورها يفسِد ألق المدى ويلوّث رائحة الجمال في كل تفصيل
على طاولة البار في عمق الليل، تصير  كالقرّاد، تمتص الغول في النبيذ لتحوله ماءً لا نفع فيه ولا ضرر
كعادتي كل مساء، أمشي ببطء يائس فوق الجسر الكبير الذي يربط جديد المدينة بقديمه، ظهر الجسر مزدحم بالغرباء، “الغرباء يبتسمون ببلاهة لكل شيء” اعترضتني امرأة خمسينة نحيلة، شعرها فضّي قصير، ترتدي بنطال جينز متسخ، تنتعل خفّ أبيض تشي عن أنها محتفظة برشاقة صباها، ابتسمت لي وطلبت مني أن ألتقط لها صوراً متعددة فوق الجسر. ولأنني غريب قبلت الانصياع لطلبها،” الغرباء مطيعون في كل شيء” شرحت لي كيف استخدم كاميرتها الصغيرة، تراجعت خطوتين لتسند ظهرها على درابزون حافة الجسر، قبل اختياري زاوية التصوير لإظهار مساحة كبيرة من البحيرة وخلفها الجبال العالية وبضع بيوت متناثرة على تلّة خضراء، رفعت يدها وقالت مستدركة:
- حين يمر سرب النوارس من خلفي اكبس زر اللقطة
- أوكي..
 طلبها لانتظار النوارس أتاح لي التلصص على ابتسامتها بإمعان،“ أنا أجيد التلصص على مفاتن النساء منذ صغري، حين لمحت خلسة سيقان جارتنا لما فوق الركبة وهي تنشر الغسيل على السطح” قرّبت وجهها بزووم العدسة لأقصى ما يمكن، التقطت عشرات الصور العشوائية لإبتساماتها. لم أهتم بمؤخرتها الزاخرة كنضج إجاصة، فأنا الآن في العام الأول من عمر اليأس، واليأس يرتقي بالنظر من حضيض الشجرة لشموخها في الأعال. مرّت خمس دقائق ولم يمر أي نورس في حيز اللقطة المفترضة.  كل نوارس البحيرة كانت تشاغب في سماء يختٍ كبير راحلٍ للضفة الأخرى. انتبهت المرأة اليائسة من حظها أنني ألتقط لها الصور بدون النوارس، اقتربت وأخذت الكاميرا من يدي، وطلبت مني بود الإنتظار إذا لم يكن لدي ما يشغلني، وافقت بسرور قائلاً في نفسي “ أكون أحمقاً إن تركت ابتسامتك وغادرت لحتفي بدونها” اطلعت المرأة على اللقطات التي أخذتُها، كلّما قلّبت صورة رمتني بنظرة متسائلة. أغلقت الكاميرا وأدارت وجهها للبحيرة، أرخت رأسها على يديها فوق الدرابزون وشردت في سفح البحيرة الواسع بصمت عميق. من بعيد كان سرب النوارس يعود بشغب مفرط، فجأة التفتت لتتفقد وجودي، وجدتني واقفاً في مكاني أشاركها الصمت، لمحتُ الدمع يسيل ببطء على خدّيها الحمراوين، سألتني:
- هل تريد الإحتفاظ بالصور الموجودة في الكاميرا؟
- إن لم يكن لديكِ مانع
- إذن.. خذ لي آخر صورة قبل أن تغير النوارس رأيها وتبتعد
ناولتني الكاميرا من جديد، صعدت برشاقة لاعبة سيرك لتقف على الدرابزون، فتحت ذراعيها لهواء صيفي خفيف السرعة، ابتسمت بملء فمها، أغمضت عينيها، ما أن سمعِت طقّة الكاميرا حتى مالت بجذعها للوراء وتهاوت في البحيرة.
في صباح اليوم التالي تصدّرت صورتها بإبتسامة عريضة الصحفة الأولى لكل الجرائد المحليه، كتب فوق الصورة ( انتحار امرأة مجهولة الهوية، لسبب مجهول، برمي نفسها من فوق الجسر الكبير للبحيرة. البحث جار عن شخص غريب ذو سحنة سمراء كان يصورها لحظة انتحارها).
 على طابعة صغيرة في بيتي طبعت ألاف الصور لابتسامتها، طيّرتها دفعة واحدة من فوق اليخت، فزعت النوارس، علت بأصوات زعيقها حتى استنفر أهالي المدينة – الغرباء والأصلاء – وتوافدوا أفواجاً لحضور تشييع آخر ابتسامة في مدينتهم، ابتسامة امرأة مجهولة الهوية.


الثلاثاء، 23 مايو 2017

مسقط رأسي


                          



    محمد جيجاك

بعد صفنة طويلة على مقعد متطرف عن رصيف البحيرة، الملاذ الوحيد للغرباء في مدينة لوتسيرن، صديقتي الكولومبية “ديانا” الهاربة من وطنها مثلي كسرت صمت المكان وسألتني بصوت هامس مُنهار :
- بماذا تفكر؟
-هذا الليلة سأكتب نصّاً مختلفاً في المحتوى والشكلّ.
-لا تغيّر كتاباتك عن المتشرد، في كل يوم لديه صدفة مثيرة
- أوكي..
-انتبه..الكاتب السيء هو الذي يكتب عن حالات لم يعشها
-ما الفرق، طالما هو مُقنع ؟
- الفرق، هو خبرة الحسّ الصادق بالشيء أوالإيحاء بالحسّ الصادق بغطاء لغة حاذقة أنيقة.
- كتبتُ عشرات النصوص عن اللجوء والتشرد منذ اجتيازي حدود بلدي لأسلك دروب التيه في جهات الأرض. قارئي لم يصرّح بعد بملله من قراءة نصوصي المجترّة المواضيع كمضغات البعير الكسول، إنما حدسي يخبرني بإنخفاض درجة حماسته في قراءة نصوصي الأخيرة، لا شكّ أنه محق، أعرف ذلك من نفسي، فأنا قارئ أولاً وأخيراً، أمّا تورطي بالكتابة كان محض صدفة ولدت في زمان ومكان مناسبين للثرثرة، صدق من قال: الغربة تربة خصبة لنمو الثرثرة الأدبية. عشرات الكتّاب اكتشفوا مواهبهم في الثرثرة الفنّية على أرصفة التشرد في بلاد بعيدة عن مساقط رؤوسهم. نعم أنا قارئ وسأبقى قارئ للأبد. أهوى قراءة الحكايات في وجوه الناس أكثر من قرأتها في الكتب، على سفح كل وجه مدوّن حكاية ما، منها حكايا مملة ومنها ما تزخر بالحيوية المتجددة في كل لحظة. لكل قارئ جيد باع واسع من النزق المشروع، يجب أن يمارس نزقه حين ينفرُ من قراءة حكاية مملّة، وإلّا فهو ليس بقارئ جيد، قد يكون ناقداً غرّاً، مرغماً على اتمام قراءة أي هراء ليكتب عنه مادته الأسبوعية في جريدة محلية محدودة القراء. أو قد يكون قارئاً من ذوي ربطات العنق الأنيقة، مصابٌ بداء استعراض أسماء الكتّاب والكتب أمام زملائه المثقفين من الدرجة الثالثة، في محصّلة استعراضه تكتشف أنه لم يقل جملة مفيدة من ابتكاره!
هذا المساء سأبتعد عن اجترار الذكريات لأؤلف من صورها الباهتة قصصاً وحكايا مستهلكة قبل قرائتها، سأكتبُ عن راهني، حتى المستقبل لن أكتب عنه، ما أدراني لما ستؤول لها الأمور غداً؟ سأفتح ذهني على مصراعيه وأكتب كمنتمٍ للعالم بأسره، سأمزّق عباءة انتمائي لبقعة جغرافية ثقافية ضيقة المساحة، تلك العباءة التي ضاقت بي  وجعلتني أمشي كبطريق مختال بخوائه. (ليذهب غاستون باشلار وأضرابه وتنظيراتهم عن جماليات المكان في الطفولة إلى الجحيم) أي هراء هذا؟ أهرب من مسقط رأسي بكامل ارادتي ثم أكتب مطولات عن الحنين والشوق إليه!
 طالما آمنت أنّ الإنسان “ مقذوفٌ في هذا العالم” فكل معلومة في ذاكرتي مصدرها العالم من أقصاه لأقصاه هي لبنة في جدار عالٍ، تسمى شخصيتي الراهنة.
تأكيداً على ما أدعيه بأنني أنتمي للعالم.. في صيف السادسة من عمري دخلتُ السينما لأول مرّة، شاهدتُ بدهشة فيلم رينغو للممثل الإيطالي جوليانوجيما، مضى أربعين سنة وما زلت أحفظ في ذاكرتي كل تفصيل في صور رينغو. في مراهقتي لم أفوّت مشاهدة فيلماً واحداً لبروسلي، ماشيستي، وهرقل، كنت معجباً بأساطير هؤلاء كما إعجابي بأساطير عنترة بن شدّاد، الزير سالم، وصلاح الدين الأيوبي. تابعتُ بذهول فالنتينا تريشكوفا تطير بمركبتها صوب السماء. حين مشاهدتي أفلام وثائقية عن قبائل الزولو  وآوا غواجا وحضارة الأزتيك سرحت بعشرات الأسئلة، مازال بعضها عالقة بذهني. قرأتُ بلهفة قصص غوغول، غوته، وميشيما، آلان بو، وماركيز بشغف قراءتي لعمر الخيّام،  المتنبي، أحمد خاني، ونجيب محفوظ. حين فشلت في ادراك الله في القرآن بحثتُ عنه في تعاليم  كونفوشيوس، زرادشت، المسيح، الديلاي لاما، غاندي، ومارتن لوثر. قضيتُ مئات الساعات - نصفها نوماً - أمام مسلسلات والت ديزني. حلمتُ عشرات المرات بمضاجعة ريتا هيوارث، راكيل والش، وفرح فاوست، تماماً مثل أحلامي عن النساء المثيرات في حارتنا الشعبية. معظم أحلام يقظتي قضيتها على شواطئ هاواي، جزر الأوز البرتغالية، وفي قصور اشبيليا. استمعتُ بكل أحاسيسي لفرقة البوني إم، ال آبا، ديميس روسس، وعارف صاغ، كما استمتاعي  بأم كلثوم، محمد عارف جزراوي، فريد الأطرش، مارسيل خليفة، وشفان. أشبعت بصري الصحراوي بألوان رامبرابت ومونيه وشاغال و...
أستطيع القول بجدارة وبلا تحسّب لغضب أبناء ملّتي أنني – وأنتِ أيضاً- ابناء العالم، شرقاً، غرباً، جنوباً، شمالاً.  بعبارة مكثّفة “ مسقط رأسنا هو العالم، كل مافي الأمر أنني من جبال عفرين وأنتِ من سهول لالاندا، ونحن الآن في لوتسيرن “.
تنحنحت ديانا من غفوتها، ربما سمعت اسم بلدتها في سياق استرسالي الطويل لتوضيح  سبب كتابتي نصّاً مختلفاً. ربتت على كتفي وقالت بنصف صحو :
- سأذهب للبيت أنا متعبة، غداً أنا سأشتري الماريوانا، لقائنا كالعادة في التوقيت ذاته، جاو جاو ..  



الرهان الأخير

ِ
                                      


     محمد جيجاك

أجمل بضع سنوات من حياتي تلك التي أصبتُ فيها بهوس المراهنات.الحياة إستحالت أمامي لأرقام فقط، كل مشهد غريب أصادفه أحوله لرقم، حفظت كل الأرقام في هاتفي النقّال، حفظت أرقام سيارات كثيرة، حفظت أعوام ميلاد أغلب الشخصيات الشهيرة في العالم، حفظت تواريخ الاستقلال لأغلب دول عالم الثالث، حفظت أسماء كل رؤوساء الولايات المتحدة و أعوام حكمهم. خلال بضع سنوات خضتُ منافسات قاتلة، مارست خدع لذيذة، وضحكت كثيراً، وفرحت بضآلة لكسبي المال، مرات قليلة حزنت لخسارة من بين خسارات لا تعد ولا تحصى.
 كان هاجسي هو البحث عن لذّة المصادفة وليس كسب المال. حين تختار رقماً من بين ألاف الأرقام ويصدف أن تتطابق مع رقم الرابح، يا لها من لذّة لا توصف !
في البداية كانت مراهناتي على مباريات كرة قدم، محلية دولية لا فرق، لم أهتم بمعرفة اسم الفريق ولا الإنتماء القومي للفريق، حفظتُ بعد تكرار أسماء فريق برشلونة وريال وفريق الجيش السوري الذي إن خسر نكّد الفرح على خصمه وحوّل ساحة الملعب لمعركة بين الجمهورين. غالباً كنت أخوض الرهان وأنا ثملٌ، في مطعم صدفة ظهرت مباراة على شاشة التلفاز فبرمنا الرهان مع ندمائي، لا أبالي بالمعلومات عن الفريقين، حتى أراهن على الأفضل، يكفي أن يعجبني لون بذلات الفريق لأراهن عليه “ أريد الفريق الأخضر المخطط بالأصفر ” ذات مرّة بسبب اعجابي بلون بلوزات الفريق راهنت عليه وهو خاسر 2-0، بالطبع خسرت الرهان، لكن الكل بما فيهم خصومي قالوا “ خسارتهم كانت ظلماً من الحكم الأمريكي”.
 لم أحتجّ يوماً على نتيجة مباراة كما يفعل الأغرار الجدد، لم ألعن حظي يوماً،  حتى أنني لم أندم لأنني لم آخذ بنصائح كرسون المطعم الخبير بقدرات كل فرق كرة القدم المحلية والعالمية،دائماً أشعر براحة ضمير لأنني لم أراهن إعتماداً على اقتراحات غيري، وأنّ ما أفعله هو استجابة صادقة لاحساسي الداخلي.
حين ارتقيت منصة الاحتراف بتّ أعتمد على أحلامي، استنبط منها أرقام المراهنة، يصدف أن أرى زعيماً في الحلم، مهما كان قدر الزعيم وعظمته وحجم شعبيته حولت اسمه لأرقام، مجرد أرقام، من الواحد حتى المائة، حسب ترتيب أبجد هوز، نادراً كنت أستعين بخبرات المراهنين الطليان الفطاحل في تفسير الأحلام وتحويلها لرقم. لم يصدف أنّي كسبتُ رهاناً من اسم زعيم، رأيت نيلسون مانديلا خسرت، رأيت البرزاني الأب والأبن خسرت، رأيت عبدالله اوجلان خسرت، رأيت لينين خسرت، رأيت ماوتسي تونغ خسرت، رأيت بن لادن خسرت، رأيت بيل كيلنتون خسرت... في الليلة التي أرى فيها زعيماً كان يركبني الشؤم طوال اليوم التالي، لكن لا بد لي من المراهنة على معطيات الزعيم الذي رأيته، هكذا كان العُرف والالتزام الذاتي بأصول المراهنة.
أغلب المراهنات التي كسبتها أدين بها لنساء رأيتهن في الحلم، نساء أعرفهن ولا أعرفهن، صديقات لا علم لهن بأحلامي عنهن، جارات دائمات الشكوى عن تعاسة أزواجهن، ممثلات جميلات، راقصات مثيرات، شاعرات في أول صعودهن على المنابر، مثقفات لم يغفلن عن التبرج في الأماكن العامة. ذات حلم غريب رأيت نوال السعداوي في قاعة المحاضرات، كنت الطالب الوحيد في القاعة، شَرحت لي مطولاً مصطلح عقدة الخصاء، فجأة كشفت عن عريّها وذهبت إلى المطبخ لتصنع القهوة، شعرت بحرارة الدم يسري في أنحاء جسدي، حين عادت مع القهوة أطفأت النور، لا أعرف لماذا؟ وبعد خوضي مغامرة لذيذة معها أشعلت النور لأرى ما حدث، وإذا المرأة التي مارسنا سويا المغامرة كانت ريتا هيوارث !  
مع اندلاع الثورة في بلدي توقفت عن المراهنات بالمال، دخلت سلك السياسة كخبير عتيق، وراهنت زملائي على أن الثورة ستنجح. زملائي المحترفون بالمراهنات نصحوني بالإبتعاد عن هذه المغامرة، قائلين : إن راهنت على أقوال الساسة ستخسر حتى كيلوتك أو ربما حياتك. لم أبالي بنصائحهم، استجبت لحدسي واحساسي الداخلي، وأشياء غامضة كانت مركونة في قاع وجداني.
راهنت  بدايةً على الثوار المتظاهرين ضد النظام، بعد أشهر راهنت على العلمانيين ضد الاسلاميين والنظام، بعد أشهر راهنت على من يكتفي بسجن خصومه ضد الذين يقطعون الرؤوس ويفسخون الأجساد في أقبية أمن النظام، بعد أشهر راهنت بأن أنفد بروحي من هذه الدوامة ضد الرصاص الذي يهطل من كل صوب على بيتي. 
بين صمت وصمت كنت أطلّ برأسي من نافذة غرفتي في الطابق الخامس المطلّ على الشارع الرئيس في الأشرفية، أقرأ ببطء وتلعثم الإعلان المدوّن على سفح السماء الزرقاء “ البضاعة التي نشتريها لا ترد لأصحابها حين الندم”. أغلقت النافذة، استلقيت حيث اتفق في عتمة غرفتي، رحت أصغي بنقاء لهدير طائرة حربية تقترب وتدبر بصحبة رشقات رصاص في المحيط القريب تأتيني كنعيق سرب غربان مذعورة. رويداً رويداً قادني العتم المقيّد بجدران محكمة إلى الاحساس باللاشيء. تماهت ذاكرتي مع العتمة العميقة. فجأة وثبتُ من قاع سحيق في العدم، قرّرت بلا تمحيص في عواقب قراري، أن أبيع وطني وبثمنه أشتري فيزا لأي رقعة لها سماء مفتوحة، تلك الصورة الشعرية الوحيدة كان تأسر مخيلتي حين اتخاذ القرار.
 لم أجد من يدفع لي ثمن تنازلي عن حصتي من المساهمة في تدمير الوطن، كل التجّار كانوا منشغلين بشراء الرصاص وخرائط حربية وربطات عنق تناسب منابر فاخرة في صالات محتشدة بالإضاءة والضوضاء.
قايضت وطني بالهواء الذي سأستنشقه بعيداً عن رائحة البارود، هكذا ساومت نفسي وعزمت على الرحيل خال اليدين والذاكرة، بلا زوادة تقيني العوز في الطرقات المتطرفة الوعرة، بلا ألبوم صور لأقربائي الحميميين لأصدقائي المراهنيين، لجيراني النزقيين للمدينة التي ولدت فيها وكبرت فيها وبكيت وفرحت فيها، نزحَت عارياً ككلب ممزق الخشم فاقداً احساسه بالجهات.
 


العدّ حتى العشرة


                     


محمد جيجاك

 لم تغفل أمي ولا مرّة عن تحذيري وتنبيهي قبل خروجي للعب في الشارع " لا تتعارك مع أحد، تعلّم العدّ للعشرة قبل الرد على أي اعتداء عليك، قد يكون تطاوله عليك مزاحاً، تذكّر أننا فقراء ولا نعرف أحد في هذه المدينة الكبيرة" أمّا أبي لم يكن يحذّرني بدايةً إنما كان يضربني بعنف مباشرة بسبب أي شكوى من طفل ضربته رداّ على ضربه لي، أو أعدت له الشتيمة التي قذفها في وجهي، أو لأي سبب آخر. يصفعني أبي ويذكّرني بعبارة أمي "عليك أن تعدّ للعشرة قبل الردّ على أحد". علّمتني أمي العدّ على أصابعي للعشرة حتى أتخطى الاعتداءات عليّ بسلام.
في مدينة حلب الكبيرة تعرّضتُ للكثير من الاعتداءات العابرة، كان يفترض بي أن أرد بما هو مناسب، كنتُ أنسحبُ لداخلي وأعدّ للعشرة ولا أفعل شيء. هكذا.. مرّنتُ نفسي على العدّ شفهياً في سرّي كي لا أحسّس الذي يغيظني أنني تخطيتُ العدّ لبعد العشرة ولم أفعل ما يجب فعله. مع الأيام صرتُ أعدّ للمائة.. للألف..للمليون..حسب الزمنكان ومقدار هول التحدّي. حين فوضى الزحام أمام الفُرن أعدّ لمدة نصف ساعة، لساعة، أو لساعتين، إلى أن أحصل على الخبز أتوقف عن العدّ. في زحمة باصات النقل الداخلي أدير وجهي عن رائحة الأنفاس الكريهة والذين لا يزيحون " أيورهم" عن مسّ مؤخرتي حين شقّ الزحمة في عبورهم أعدّ بتوتر. في أول خطوة لدخولي دائرة حكومية حتى أغرب عن وجه الموظف المستبد أعدّ بصمت. حين أزمات السير المزمنة وزعيق زمامير السيارات التي لوّثت سمعي وأحدثت في أذنّي طنين مستدام كنتُ أعدّ بصوت عالٍ. إن صادفتُ رجلاً متعجرفاً و"قحبي" النظرات على خصره مسدسٌ أطول من قضيبه أدير وجهي عن منظره المقرف وأعدّ باحتقار. كلّما رأيتُ صورة رئيس الدولة أو مالك الدولة أو معلم الدولة أو قاهر الدولة لا شعورياً أباشر العدّ في سرّي. مساء كل ثلاثاء بعد تأكيد خسارة الرقم الذي راهنت عليه في لوتو اليانصيب الوطني أحرق السجائر بتتال وأعدّ شتماً. منذ أول يوم لزواجي صار العدّ بالنسبة لي كالهواء الذي أتنفسه في كل لحظة.
سيرتي الشخّصية محض رقم لامتناهٍ، يصعب كتابته وقراءته.
ذات مرّة جرّبت ألّا أتخطى العدّ لبعد العشرة (أعتبر تلك التجربة الفريدة لحظة مضيئة في سيرتي الشخصية) حدث أنّ صديقاً نصف حميم طَعن بأخلاقي أمام الغرباء. نويتُ أن لا أمرّ مرور الكرام على إهانته لي، لمحته قادماً نحوي، شرعتُ بالعدّ على أصابعي، حين مدّ يده للسلام كنتُ قد وصلت للرقم عشرة، تنهدتُ بعمقٍ وقلت له بحزم وإصرار لم أعهدهما سابقاً في سلوكي :
- أنت شخص سيء ابتعد عني.
انتابني حزن شديد وأنا أتابع صديقي بنظراتي، مدبراً عني مطروداً للأبد. داهمني شعور بالكآبة لبرهة طويلة، فجأة انزاحت الغمامة السوداء عن سمائي وغمرني شعور مطلق بالأريحية.
للأسف لم أتّخذ من تلك التجربة الناجحة قاعدة دائمة لسلوكي، الإكتفاء بالعدّ للعشرة وتنفيذ الإجراء المناسب، بعد أيام عدّت مجدداً للرزوح تحت سطوة العدّ لأبعد من العشرة.
بعد سنة من نزوحي عن مسقط رأي وإقامتي في أرض غريبة، أصبتُ بحالة من الشرود المستمر، نبّهني بعض الأصدقاء والأقرباء وطبيب القرية أيضاً أنني أشكو من عطبٍ ما في أخلاقي، أجمعوا على أنني بتّ نزقاً، عدوانياً اتجاه كل ما يحيط بي! وأنني بين حين وآخر أخسر صديقاً أو قريباً لسبب تافه حسب تقديراتهم. وأنني لم أعد الرجل المتسامح، ذو الصدر الواسع، المتعالي على توافه الأمور.
وقفتُ أمام المرآة طويلاً أبحلق في صورتي بحثاً عن العطب الذي تحدثوا عنه، اكتشفتُ أنني منذ سنة لم أمارس العدّ لبعد العشرة، تذكّرت، ذات مرّة قلت لأحدهم أنت منافق، لكن قلتها بعد أن عدّيت للعشرة حين لم يكف عن كذبه حتى قبل العشرة، فاتّخذت بحقه الإجراء المناسب. ثمة آخر كان يدّعي على ما ليس فيه فضقت به، عدّيت للعشرة ولم يصمت عن متابعة تبجحه، وصفته بالساقط وطردته. وآخر ...وآخر...
 أيقنتُ أني شفيتُ من داء العدّ لأبعد من العشرة (العدّ للعشرة مسافة كافية جداً لتحمّل صفاقة الآخر) بصقتُ بغزارة على سيرتي الشخصية المعكوسة على وجه المرآة،  تحطّم الزجاج تحت ثِقل الماء اللّزج المشحون بذكرياتي المخزية في مسقط رأسي.
صنعتُ من غصن الورد على شرفتي مسطرة بمسافة عشرة سنتيمترات، ورحتُ أتربصُ بكل من لا يروق لي، أمسكه من لسانه النظيف وأبطحه على المسطرة، إن كان طوله دون العشرة أبقيته صديقاً أو قريباً على مسافة من الحذر، أما إذا كان طوله أبعد من العشرة شطبتُ اسمه من ذاكرتي للأبد.