‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصص قصيرة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصص قصيرة. إظهار كافة الرسائل

السبت، 31 مارس 2018

مخلب الصدفة
















محمد جيجاك



مضت ثلاثة أشهر على تدمير مصنعي للألبسة، قذيفة طائشة انطلقت من غرب المدينة لشرقها سقطت في منتصف الطريق على سقف مصنعي في وسط حيّ الأشرفية، وبهذا الحدث الصدفوي، انتسبت لجيش العاطلين عن العمل، الذين يزدادون كل يوم بإطراد مع عدد القذائف الطائشة التي تهطل على المدينة، عن طريق الخطأ والصح.
 بعد مرور شهر شرعت زوجتي تتذمر من عطالتي، رغم أنني حملت عنها عبء أداء معظم الأعمال المنزلية، إلّا أن زوجتي من صنف النساء المتحررات ظاهرياً، اللواتي يفضّلن الرجل القاهر للظروف، والذي يأتي بنتيجة حسب أهوائهن، تطالبني بأن أفعل شيء، أي شيء، لا يهم، المهم أن أتدارك نفاذ المدّخر من المال وأن لا أبقى أسير البيت كبغل معاق، ولأنها تعرف جيداً لا فرصة لي بإيجاد عمل والحرب في أوجها، اقترحت أن أعمل في الثورة مثل أصدقائي. قلت:
- في الثورة لا يوجد المال، وثانياً، لا مكان لشخص ملحدٍ مثلي في هذه الثورة.
 قالت توضّح ما تخمّنه أنني لا أعرفه:
-  المال يوجد في كل مكان، فقط روّض عنادك وتعايش مع الأشياء التي تكرهها
- لن أخدع قناعاتي لأجل المال؟
- الأولوية أن تحصل على المال كيفما اتفق لتعيش بكرامة، لا أن تفكر بكرامة وتعيش بذل متسول.
- حين ينفق المال لدينا سأفكر ماذا سأفعل
- الكسالى والبليدون هكذا يفكرون
- حسناً ..كما تشائين
رويداً رويداً مع تكرار موشحات زوجتي حول أصول العيش بكرامة ولو على حساب الكرامة، أصبحت عاطلاً عن الحياة، اتسعت فجوة الخلاف بيننا من جهة وبيني وبين العالم أجمع من جهة أخرى.
 الوقت كلبٌ؛ يعضّ من ليس لديه ما يفعله، أربعة وعشرين ساعة زمن يتكرر للأبد، أحوم حول نفسي مثل طاحونة فارغة، أو، كدجاجة بحَملٍ كاذب، لا تعرف أين تضع بيضها.
 ريح باردة تنفخ في ثقوب النافذة، تُحدث صفيراً حاداً، أُصغِ له ببلادة غراب اعتاد نشاز الطبيعة، انقطعت الكهرباء بعد حلولها كضيف مرح لمدة ساعة وغادرت دون أذن، لأجل غير مسمى.
 حلّ الظلام وضاق بي المكان من جديد، قرأتُ آخر عبارة من رواية "أشياء تتداعى" على ضوء نار قداحة من صفحة 154 " ليس هناك من قصة غير حقيقية، العالم لا نهاية له" طويتُ الكتاب واستسلمت لدفء مضطجعي على الأريكة، سلبتني الغفوة كلصّة اعتادت تواطئي معها، أرخيتُ حبال حواسي ونمتُ بسرعة الكوالا، دقائق قليلة ووقعتُ فريسة حلم مرعب، رأيتني في صالة اوبرا فخمة، أحاول جاهداً أن أفهم حكاية الرقصة وأفشل، فجأة أهربُ في الظلام من شيء لا أعرفه، ألهث ككلب يجرّ مزلاج ثلجي ثقيل، وإذ بي على بعد خطوة واحدة من حافة صخرية مقطوعة شاقولياً على سفح جبل "قره بيله*"، خطوة أخرى ويكون السقوط المدويّ من علو عشرين متراً تقريباً، إن لم يحالفني الحظ ويرتكز جسدي على جذع  شجيرة بلوط؛ سأتشقلب على المنحدر الطويل هبوطاً حتى يتناثر أشلائي في الطريق لمستقر نهر الأسود، التفتُ خلفي حيث طريق العودة الذي أتيت منه، رأيت ثلاث ذئاب تلمع عيونهم في العتمة، يلهثون على بعد قفزة واحدة بمقياس تضوّر جوعهم، فتحت عيني لإنعدام حلّ للهرب، ولأتأكد من وجود الذئاب بالفعل، رأيتُ زوجتي تحمل شمعة ثخينة وتتنقل من غرفة لأخرى.
تعلّمت من "غوستاف يونغ*" عادة تفسير أحلامي بطريقة علمية، وبدون ثرثرة بوحها لأحد، بناءً على نظريته "الحلم هو اللغة الخافية للإنسان" أي أن الحلم محاكاة عميقة لأحداث جرت مع الإنسان في حياته اليقظة، مفردات الحلم هي ملاحظات دوّنتها الحواس والعقل والتخيّل، يتم معالجتها وجدانياً في مختبر متحرر عن أية رقابة شعورية، والذكي يتعرّف على نفسه من خلال أحلامه. كان حلمي يشير لي بأنني شخص لا أحبّ المواجهة والمقاومة، إنما لدي طرق أخرى للحلّ.
تنفست الصعداء بعد الإطمئنان على نجاتي من أنياب الذئاب، ورحتُ أتابع بنظرات متسائلة شغب زوجتي.
 كانت توضّب أغراضها الخاصة جداً في حقيبة سفر كبيرة، قبل أن تغلق سحّاب الحقيبة الممتلئة بالألبسة، رفعت الشمعة صوب اللوحة التشكيلية الوحيدة المعلّقة على جدار بيتنا، أهدانا إياها فنان حلبي مشهور بطريقة ملفتة للنظر أمام زوّار معرضه في صالة الخانجي، الفنان معارض راديكالي للنظام الحاكم في البلاد، وهذا كان دافع زيارتي لمعرضه، إلّا أنني انتكست حين قرأت على بروشور معرضه " تحت رعاية رئيس الجمهورية يقيم الفنان ... معرضه!". تسائلت في نفسي مستغرباً، "كيف لفنان قضى سنوات في المعتقل لمعارضته رأس النظام ويفتتح معرضه تحت رعايته؟".
لم أبحث عن جواب لسؤالي، لأنني أعرف مسبقاً الثقافة التي تربينا عليها وعلمتنا مهارة تبرير الشيء ونقيضه في آن واحد.
 في الحقيقة اللوحة الهدية، كانت بمثابة مغازلة فجّة لزوجتي التي أغرقته بأسئلتها الغبية، زوجتي تحاول جاهدة إظهار إهتمامها بالفن والفنانين؛ والفنان يجيبها كمراهق حظي بإمرأة جميلة تلاحقه كفراشة، الفنان العجوز ذو الشارب المعقوف للأعلى كذيل فأر مذعور اكتشف بسهولة غباء زوجتي في الفن، إنما طاب له ثرثرتها الأنثوية، أوجد الفنان المتصابي بسرعة وذكاء حلاً لتوطيد علاقته مع هذه المرأة الجميلة والغبية "ربمّا هذه الصبية الشقراء تنفع لأشياء أخرى في الحياة" استطعت أن أقرأ هذه العبارة في عينا الفنان الزائغتين، الغائرتين، ركض إلى المكتب كطفل، جلب ورقة صغيرة وقلماً، كتب عليها "مباعة" بخط مقروء غير فني، علقّها على زاوية اللوحة السفلية. وقال لنا بتهذّب مصطنع "هذه اللوحة باتت من مقتنياتكما، يشرّفني التعرف بكما كصديقين نادرين". نظرت زوجتي في عيوني مباشرة تستشف رد فعلي بينما قرأتُ في عيناها فرح طفلة بليدة، ابتسمت بسخرية وشكرت الفنان بنبرة رسمية.
 كنت أراقب تطور الحالة العاطفية للفنان بصمت، أضيف لذاكرتي ملاحظات عن سفالة الإنسان حين تستحوذ عليه الغريزة، ويتحول لحيوان حقيقي، أعلم أن الغريزة تسحق المعرفة في اللحظة الحاسمة، تجعل الإنسان ينحدر من سموه المعرفي العالي لكلب يلهث وراء شهوته. بالمقابل حبّ الظهور لدى زوجتي تدفعها لارتكاب حماقات لا ترتق مع الزمن، دائماً تكون بسبب جمالها وغبائها فريسة نوايا جنسية لمشاهير ووجهاء المجتمع سَفلة، ولا تتعظ.
 انزلت اللوحة عن الجدار برفق، لفّتها بقميص نومها وحشرتها عنوة في الحقيبة، راحت لتجلس أمام دولاب المكياج قرابة الساعة، تحت ضوء ثلاث شمعات أنهت تنضيد وجهها بمساحيق غالية الثمن، قصّت رزمة صغيرة من ذيل شعرها الأشقر، وضعتها أمام المرآة، دقّ قلبي لخطب ما حدث، أيقنت أنها قررت هجراني وتنطلق لحياة جديدة. تأنقت بلباس رسمي فوقه مانطو من جوخ إيطالي أسود، خيّل لي أنها ذاهبة إلى مؤتمر اقتصادي لتجار الدرجة الأولى، أخرجت الحقيبة الثقيلة بعناء من الباب، التفتت إليّ لتقول مستدركة، كنتُ مازلت مضطجعاً على الأريكة أدخّن وأعبث بصمتي، قالت بنبرة مهذّبة:
- أنا مسافرة إلى .
 أطبقت الباب ورائها بهدوء وغادرت، مصدرة صوت فرقعات كعب حذائها الخشبي على بلاط الدرجأ.

مرآة لوتسيرن















محمد جيجاك





كلوحٍ خَشبيٍّ فاقدِ الصلاحيَّةِ رمتني الرياحُ على سَفحِ ماءِ نهرٍ " Emme" يؤرجِحُني تيّارُ الماءِ كسكّيرٍ مترنّحٍ ينفضُ عن روحِهِ فائضَ الثَّمَل. الخشبةُ أصلُها جِذعُ شَجرةٍ، كانت ذاتَ عمرٍ لها ترتدي ألوانها في مواعيدَ صارمةٍ لا تُخطِئها. كانَ للشجرةِ أذرع وفقَ موازين ثمارها وثِقَل الطيورِ، تمدُّها للريح أَسِرّةً لاستراحاتها من تَعبِ الفضاءِ الشاسع، وأُرجوحةً لطفلٍ في المهدِ رَضَخَ لإلحاح أمهِ في إزاحة بكائهِ عن ظهرها قبل حلول دور أبيه في اتّخاذِ ظَهرِها وسادةً لرأسهِ.
مضى عامان على تيهي البليد في بلدٍ لم أكن حرًّا في خيار مجيئي إليه، أستجيب للنزق وأسلّم روحي للفراغ لتتقاذفني موجات الضياع من زقاقٍ إلى زقاق في مدينة صغيرة على مقاس ابتسامة غريب حين الزحام، ذاك الغريب الفضوليّ يحملق في الوجوه كي يتلقّف ما يفترض أنها حصّته من بشاشة الوجوه العابرة، فلا ينالُ سوى حصّتِهِ من حياديّةِ الوجوه المبطّنة بالازدراء، كأنّه نشازٌ في معزوفة الوقتِ وخطأٌ مقصودٌ ارتكبه الله في رواق مزاجهِ. شفاهُهم تتقنُ رسم الابتساماتِ بذاتِ تقنية امرأة الإعلانات على لوحةٍ دعائية لمُنتجٍ مشكوكٍ بجودته.
 أستلقي تحت شجرة الرصيف حين يكون ظلّها على مقاسِها في الفضاء، أرتادُ صمتي وأنا شاردٌ أُحصي الفراغات المتجاورة بين أوراق ضاقت برصانة هندستها فمالت لجهة ثِقل روحها، أتربّص بهطولِ لحظة صفاءٍ من أرقِ التيه لأتصالحَ فيها مع نفسي ومع الآخرين الذين لا أعرفهم. أعود لبداية الجولة بهدف مختلف عن سابقاتها، أبحث عن مقهى رخيص قذر كما مقهى الموعد في حلب، لا يهمّني إن كنت أعرف أحدًا فيها أو لا، لا يهمّني إن كان أحدٌ في انتظاري هناك أو لا، لا يهمّني إن توقعت قدوم أحدٍ أعرفه أو لا، ما يهمّني ألا يحدّق بي زبونٌ بلؤم كما كان يحدّق بي رجل أمنٍ منتحلًا صفة مثقفٍ في مقاهي بلدي، ما يهمّني ألا يسألني فضوليّ، من أين أنتَ؟ لِمَ أنت هنا؟ ما يهمّني أن أجلسَ خلفَ نافذة الواجهة وأعدّ المارّين، أتساءل عن اختلاف تعابير ملامحهم، أتساءل عن أذواقهم في اختيار ألبستهم، بينما في العمق أفكرّ بأشياء لا صِلة لهم بها.
الطريقُ الذي لا ذاكرة لديه عن وقعِ أقدامي، سأسير في ذات الطريق في كل مرّة مترنّحا، رغم يقظة حواسي الستِّ. هكذا دائمًا تخطئ قدمي اليسرى في تقدير يقظة أختها.
تقودني خطواتي المتعثرة إلى أمام تمثال Löwendenkmal حيث المكان المفضّل لصديقتي الأريتيرية التي كلّما شدّها الشوق للغياب مرّت لتلقي نظرة الوداع الأخير على الأسد الملقى في اضطجاعه الأخير الذي تحجّر الرمح الخشبي في خاصرته فخرجت روحه على  شكل ابتسامةِ ألمٍ أبديّة، نتبادل التحيّة بعربيّة ركيكة ونُكمِل الحديثَ بألمانيّة أكثرَ ركاكة، ونعتذر من بعضنا لعشر مرات في كل لقاءٍ عن جهلي بلغتها التغرينية وجهلها بلغتي الكردية. تصادقنا في شارع" بيلاتوس"، كانت السماء تنزّ رذاذ ماء خجول، جمعتنا المصادفة أمامَ واجهة محلٍ فاخرٍ، كنّا ننظرُ للزجاجِ الذي يَعكسُ صورتنا ثمّ ينظرُ كلّ منّا إلى وجهِ الآخر مستغربًا! اكتشفنا أنّ ثمّة عدمَ تطابقٍ بين الصورة على الزجاجِ ووجهنا في الواقعِ الّذي يعكسه، ابتسمنا لاكتشاف الخدعة ثمّ ولجنا أقربَ مقهى لتداول النظر في وجهي بعضنا بعضا.
   في كل لقاء تكرّرُ صديقتي السؤالَ ولا تنتظرُ مني الإجابة:
- لماذا صورتنا المعكوسة في مرايا هذه المدينة لا تشبهنا؟ أقول لها:
- هكذا هي المرايا التجاريّة الخادعة، تعكسُ ما يطيب لها. تضحكُ صديقتي وتقول بحزن:
- نحن بضاعة بلا زبائن، طغاة بلادنا عرضونا على الأرصفة الغريبة للبيع ولا يحاصصننا الثمن. أردّ:
- صدقتِ يا بنت بلاد الزيلع
 تتجهّمُ في وجهي مُستنكرة تحريفي لنسبِ بلادها، تقول معترضة:
- أنا ابنة أريتيريا، أريتيريا الإغريقية وليس زيلع العربي.
أسألها وما الفرق بين هذا وذاك، ربما مرّ بأرضكم صينيّ وأطلق على تلك البقعة المنسية اسم " تشو بيغ يون"؟ تبتسم لي صديقتي الأريتيرية المسماة بـ "Abraha " أقدمُ ملكٍ خاضَ جدلًا عادلًا لأجل معرفة حقيقة الربّ، قالت بنبرة مهزوم:
-أنت شيطانٌ تأتي الأمور من آخرها، بوجودك أشعرُ أنّ الأرض كالفضاءِ بلا حدود، بلا منغصات في تضاريسها، بلا مفردات تحيّرني في دلالاتها، بلا إله يحيلني لجهة مقدسة لأديرَ ظهري للجهات الأخرى، بلا ألوان تخضعني للمفاضلة، بلا ...، أُسكِتها بقُبلةٍ مُحكَمة، كنتُ قد حكتها بنسيج من الضوء وهواء البحر قبل معرفتي بها، قُبلة كانت تنفع لأيّ امرأة تشبهها، أمسكُ يدها وأقول:
-تعالي نسيرُ في شوارع Altstadt الضيقة دون أن ننظرَ في واجهات المحلات الفاخرة.
.................
- لوتسيرن: مدينة سويسرية صغيرة

يوم صاخب









محمد جيجاك


هي الحكايةُ ذاتُها في كلِ صباح.
في البداية، مع أول بزوغ الضوء، أفترض أنّي أملك احتمالات كثيرة، مقترحات ثريّة، أُداولها مع نفسي قبل النهوض من الفراش والوقوف على قدميّ صاحيًا، قبل صنع القهوة، قبل تناول سيجارتي الأولى بجوار رأسي، غالبًا أدخّن سيجارة عبثًا قبل نهوضي، قبل مغادرة أولادي مع أمّهم مع كامل ضجيجهم إلى المدرسة، قبل فتح نافذة غرفتي لتفقّد سماكة الثلج، قبل تجرّع إحباطي الصباحيّ من المشاهد الهندسية ذاتها لدور بليدة، لا تفكّر بالتّمرّد على خطوطها المستقيمة. منذ أوّل صباح لي في هذه القرية قبل سنتين، لم تتغير ملامح أيّ مشهد من جهات بيتي الأربعة، الأشجار المرصوفة على منحدر الجبل على حالها، بالرّتابة الغبيّة ذاتها، يأتيني خرير ماء النهر بإيقاعه المعتاد منذ الأزل، الذي يذكّرني بشخير جاري السّمين في حلب كلّ ليلة خميس؛ المسكين كلّما عاشر امرأته الّتي لا تقلّ عنه وزنًا واتّساعًا في مساحة الجسد، يخور كالثّور، كأنّه يقتلع جبلًا من جذوره، ثمّ يروح يصفّر بخشونة في نومه ألمًا. في السابعة والنصف ودقيقتين ستمرّ المرأة ذاتها الرصينة في خطوها، مرّت مائة مرة من أمام نافذتي ولم أرَ وجهها لسوء حظّي وحظّها، أفتح النافذة بعد تجاوزها مستقيم نظري من النافذة بثلاث خطوات، فأتبعها بنظراتي المُحبَطة، حفظتُ كل تفاصيلها؛ قامتها من الخلفِ، شعرها الأحمر القصير، الذي بالكاد يلامس أعلى كتفها، مقاس استدارة مؤخرتها الصغيرة، مساحة المثلث التي ترسمه بين ساقيها حين تبعد قدمها عن أختها. بكلّ تأكيد هي لا تعرف مقدار اهتماميِ بها، ولا أنّ هناك كائنًا حفظ مساحة كتلة جسدها في هذا الفراغ الهائل، ربّما تعرف أنّ غريبًا ذا سحنة سمراء يسكن هنا، قادم من جغرافية بعيدة، لا تكلّف نفسها عناء معرفتها ولا البحث حتى عن تلك البلاد على الخريطة المعلّقة في ساحة القرية، أصلًا لا يهمّها أن تعرف عنّي شيئًا، ولا يدفعها الفضول لمعرفة أنّ هذا الغريب الأسمر المُحبَط من كل تفصيل في الحياة الذي يعرف عنها ما لا يعرفه أهلها، جارها، صديقها، حبيبها، أراهن على أنها ستُدهش إن عرِفت أنني أحفظ مقاس خطوتها حين يهطل المطر، حين يرتدي رصيف مسارها ثوب الثلج، حين تزقزق العصافير فوق الغصون التي تمرّ من تحتها.
هي الحكاية ذاتُها، في كل صباح!
كنتُ قد أدرجتُ الكثير من البنود لممارسة أنشطة صاخبة في هذا اليوم المثلج، لمناقشتها مع نفسي أثناء شربِ القهوة وحيدًا؛ مثلًا: بعد قليل سآخذ حمّامًا بماء فاتر، سأنتقي ألبسة متناسقة الألوان، وفق القيم الجماليّة لما قبل ما بعد الحداثة، حذاء على لون قبّعة، لديّ أحذية بألوان متعدّدة، لكن ليس لدي سوى قبّعتين؛ واحدة سوداء أتيت بها من حلب، وأخرى بنّيّة اللّون اشتريتها بفرنك واحد من سوق اللّصوص في برن. كل الأحذية من غير هذين اللّونين أرتديها حين أكون حاسر الرأس، رأسيَ الأصلعُ يناسبه كل ألوان الأحذية. سأحفّ ذقني ببطء وعناية، ليس كما كنت في حلب مستعجلًا بلا أدنى سبب، سأنزع بملقط سيّئ الشعيرات المتطرّفة عن مسار الشفرة، في أعلى خدّي، ثمّ أسير في الشارع الرئيس للقرية تائهًا، كأنّي في صحراء بلا بوصلة ترشدني للجهات، سأستقلّ قطار الساعة الثامنة إلى مدينة لوتسيرن، لن أسلّم عينيّ نافذة القطار مثل كلّ مرّة، مللتُ النهر الذي يوازي مسار السكّة حتى تخوم المدينة، مللتُ ألوان الأشجار في كلّ الفصول، مللتُ مشهد أربعة غزلان في فيرتن شتاين، وأَنف اللّاما المرفوع الرأس أبدًا خلف سلك شائك في فولهووزن، سأصطحبُ معي رواية بالألمانيّة لهرمان هيسه، تلقّفتها أمس على رصيف النفايات في مدينة تون، نظر إليّ صديقي مندهشًا؛ كيف أتجاهل مكواة براون جديدة وأختار كتابًا ورقه أصفر من بين النفايات! سأمثّل في القطار دور القارئ كما يفعل أهل البلد الّذين لا يهدرون وقتهم هباءً، بالتأكيد لا أحد من الركّاب سيعرف إن كنت أجيد الألمانيّة أم لا، أعلم أيضًا أن ليس لدى أحد حفنة فضول الذباب ليسألني عن ذلك. نعم... سأريهم-عن قصد- أنّني أفعل شيئًا ما مثلهم، لستُ عاطلًا عن الحياة كما قيل لهم عنّي قبل وطء أقداميِ بلادهم. سأمشي ببطءٍ فوق جسر كابيلا الخشبيّ، لن أنافس السّيّاح اليابانيين على مساحة ضئيلة فوق الجسر لألتقط صور سيلفي وخلفي البحيرة، سألجُ المدينة القديمة من البوابة التي كان يدخلها ريلكه ذات تيه، سأنظر بانبهار الخبير لمكامن الجمال في كل المباني العتيقة، أتصنّع قراءة موجز تاريخ كل مبنى المثبت على لوح فضّيّ أمام أبوابها العريضة، سأوحي لكلّ عابرٍ يلاحظني بأنني شخص يعرف ما في الحجر من قيم ثمينة من أسرار في أنفاسها لم يبح بها اللّئام من المؤرّخين. فأنا من بلاد ما زال علماؤها، و فقراؤها، ولصوصها، يحفرون الأرض بحثًا عن حصوة تقول لهم سرًّا جديدًا عن تاريخ بلادهم السحيق في الأزل، مع اكتشاف أنّ ثمة برهنة على كذب ما كتبه المارقون فوق أرضها، سأعرجُ صوب مسرح فاغنر، كزبون شغوف بالموسيقى، سأطّلع على البرنامج الشهري في الواجهة الزجاجية، ستراقبني عجوز الريسبشن من فوق نظّارتها، ستنتابها دهشة طفيفة، كالعادة بسبب سواد سحنتي وهندامي المتواضع، لن تسألني إن كنتُ أبحث عن موعدٍ جديدٍ لنشاطٍ مسرحيّ أو أمسية موسيقيّة في هذه المدينة الصغيرة، أو إذا ما كنتُ من محبّي فاغنر المجنون، ولديّ فضول مختلف عن أقراني اللاجئين، ستظنّ أنّي أخطأت العنوان، والمكان اختلط عليّ بين مسرح موسيقيّ راقٍ أو نادٍ ليليّ رخيص، لا سيما بالقرب من الواجهة الزجاجية صورة امرأة نحيلة، عارية تمامًا، تبان كل مفاتنها، لكن وجهها حزين، ولا تحملق في ناظرها بفجور بنات البورنو. أعلم أنّ أهالي هذه المدينة ينفرون من المجانين والمشردين واللاجئين من الدول النامية. ذات صدفة في القطار جلست بجواري عجوز متّقدة الذاكرة، في سياق تبادل المعلومات الأوليّة للتعارف بيننا قالت:
- أنا معجبة بقصص ألف ليلة وليلة وأساطير سندباد!
فأردت ردّ الجميل جميلين على اهتمامها بالثقافة الشرقيّة، قلت:
- يعجبني ريلكه ونيتشه وغوته وهيسه وريتشارد فاغنر.
حدّقت في عينيّ بارتياب، بترت الحديث بموافقة:
- ja ja
ثم سلّمت وجهها نافذة القطار ولم تلتفت إليّ بعدها.
أمّا عجوز الريسبشن في مسرح فاغنر ستبتسم لي بودّ مصطنع لاحتمال ضعيف سيراودها؛ ربما أشتري تذكرة لحضور حفلة هذا المساء، الغد، أو مساء الغد. أجمل ما في هذه المدينة هنّ موظفات المبيعات في المحلات التجاريّة، يبتسمن بسخاء مفرط للزبون، حتى يخال الزبون أنّها ورثت هذه الشركة الكبيرة على غفلة منها عن جدّها الّذي لا تعرفه.
بعد انتهائي من المدينة القديمة سأتدّرجُ صوب رصيف البحيرة، المطاف الأخير لي، ووجهة كل سائح في هذه المدينة، هناك لن أجد حتما من يجالسني، سأجلسُ على طرف مقعد متطرّف، أمام تمثال أرنولد أوت الشاعر الذي لم أقرأ له جملة واحدة، بمصادفة ذات ضياع لي اكتشفت تمثال هذا الشاعر ابن لوتسيرن! سأترك مساحة واسعة من المقعد لعابر تعِبٍ يريد استراحة قصيرة مثلي، سألفّ سيجارة تبغ رخيص ببطء عجوز على عتبة ولوجه جنّة الزهايمر، سأنظرُ طويلًا كأبله حالم في تفاصيل جبل بيلاتوس، وسأحصي قمم سلسلة جبال ريغي، كما في كلّ استراحة لي في هذا المكان، المفاجأة المسليّة أنّني في كل حسبة أخلص لرقمٍ مختلف! سأُلهي نفسي بمتابعة صخب صديقي النّورس النّزِق، على الرغم من اتساع الرصيف فهو دائم الشعور أنّ العالم ضيّق عليه، يسحبُ عظمة رقبَته للخلف بين كتفيه، يُخفض رأسه كلصّ متربّص، ويزعق بأعلى صوته، كأنّه يخبر المحيطين به بزلزال قادم لا محالة.
للحظة - كما في كل صباح مضى- يشدّني السّهو لارتكاب حماقات في الخيال، بفعل سطوة قوة مجهولة، لا أعرف مصدرها، أنسى للحظاتٍ عاداتي الأصيلة، منها: إنّي لم أكن يومًا أؤمن بالخطط المسبقة والمعدّة سلفًا. ولم أُحِل سبب تعاستي للرتابة المتفشّيّة في كلّ تفصيل من وطني.
هذه القرية المرميّة بعبث لجوارِ جبال الألب أفسدت عليّ كلّ شيء، كلّ شيء، حتى الأسرار المرتّبة بتسلسلها الزمني في ذاكرتي.
أنهيت جولتي الخياليّة في مدينة لوتسيرن كما كان يفعل كيركيغارد في كوبنهاغن، إنّما أنا بلا أبٍ يمسك يدي في مشاويره داخل القصر، ويحثّني على تخيّل جمال المدينة لأنسى هول إعاقتي، لم يصف لي أحد مفاتن المدينة بلغة شاعريّة، عدتُ من رحلتي الخياليّة ببضع صور خرساء مزيّفة، وجدت لنفسها مكاناً في ذاكرتي بين آلاف الصور المزيّفة عن وطني.
الكلامُ بصيغة المفرد والجمع، التعابير الزاخرة في دلالاتها، سوء تقدير المسافات والمساحات، قياس الحرارة داخل الغرفة وخارجها، فصل الجوارب عن الألبسة الداخليّة وعن اللباس المخصّص للزيارات الرسميّة، تنسيق الأحذية بحسب ألوانها أمام عتبة الباب، مواعيد حلاقة ذقني، أناقة إلقاء تحيّة الصباح على جارتي الّتي لا تبتسم إلّا حين تردّ التّحيّة وبعد عودة شفتيها لحالتهما الطبيعية تنسى أنّي جارها، وتنسى أنّي ابتسمت لها قبل إلقاء التحية وبعدها. كل تفصيل جميل فسد من تلقاء نفسه أمام استفحال كآبتي...

الثلاثاء، 20 فبراير 2018

سؤال من قبو الحرب













 محمد جيجاك 



يسعد صباحك صديقي :
سقطت قذيفة بالقرب من بيتي في عفرين، كنتُ لحظتها في التواليت أتبول بغزارة بعد كرع ابريق شاي كبير لوحدي، تعالَ صراخ ولديّ بصحبة عويل امهما، وقع فانوس الكاز من على الطربيزة، انطفأ النور وعمّ القبو ظلام دامس، القبو البارد والقذر رتبنا فيه أثاث لإقامة مؤقتة، حيث نهبط إليه كلما سمعنا هدير الطائرات تقترب من سماء المدينة، ولأن مدينة عفرين عاصمة دولة حديثة العهد، انبثقت من عبطة الزمن، بين ركام دولة منهارة، بفضل تدهور أخلاق سادة الدول العظمى، ولأن دولة عفرين لا تملك ميزانية مالية سوى رصيد هائل من آهات الولادة، والآهات لا تنفع حتى لشراء زمور خطر ينبح ككلب مذعور قبل قدوم طائرات العدو، لذا نضطر لإبقاء آذاننا منتصبة كأرانب في غابة مكتظّة بالثعالب.
تابعتُ التبول دون رد فعل شرطي على سقوط القذيفة. سمعتُ زوجتي تقول بهمسٍ تهدي من روع ولديها "حمد لله أنها سقطت بعيدة" ابتسمتُ وقلت في سريّ وأنا أصوّب خيط بولي إلى فجوة التواليت الذي لا أبصره. المسكينة تتحايل على نفسها قبل التحايل على ولديها، هي تدركُ تماماً بأن عفرين مدينة صغيرة جداً، وشاءت رغبات الوحوش أن يجعلوا منها ساحة حرب غبية، فلا معنى لكلمة بعيد و قريب.
 البعيد؛ يعني كارثة أيضاً، حلّت ببيت أحد أهالي المدينة، قد يكون بيت صديق، أو بيت أحد المعارف، أو بيت شخص ما صادفناه في مكان عابر، ابتسمنا له دون أن نعرف بيته أين يكون. ربما ضحكنا سوياً ذات شرب شاي وأنا أشتري من محله شيئاً ما، ربما رقصتُ معه يداً بيد في دبكة واحدة ذات عرس لصديق مشترك.
القريب؛ يعني بيتي أو بيت جاري.
 المهم، أنهيتُ التبوّل وعدت للولدين أتحسس وجودهما ونبضهما كأعشى منذ لحظة سقوطه من بين ساقي أمه.
 آثرت أن نبقى في العتمة وأن لا أُشعل الفانوس حتى يتلاشى صوت هدير الطائرة. سألني ابني الذي تخطى الثامنة من عمره، والذي زاد منسوب غبائه أضعافاً إبان الحرب المفاجئة، حيث مع سقوط كل قذيفة أو صاروخ يتعمق غباءه درجة، لا سيما في أسئلته :
 - ما شكل القذيفة التي سقطت تواً بابا؟
أجبت: لا أعرف.
ربما نظر إلى وجهي عبر العتمة ليكتشف عمق جهلي، أو ليتأكد من أنني شخص غير صالح للاستعمال الأبوي. نعم يا صديقي، في الحرب، الرجال يتحولون لحيوانات غبية، والنساء يتحولن لنعجات خرقاء، لا يصدر عنهن سوى الثغاء النزق، وخليط بين الدعاء والشتائم. تركني الطفل الذي ورث نصف غباءه مني تحديداً والنصف الآخر لا أعرف من أين! ذهب لأمه زحفاً ليسألها ذات السؤال.
أجابت أمه التي هي زوجتي، والتي لم أسمع ضحكتها منذ شهر، حيث تنقلب لحمقاء من الدرجة الأولى حين الأزمات الكبيرة، في هذه اللحظة المعتمة من الزمن، لديها تفسير واحد لا غير لهذه الحرب " الله يكره الكرد، يا حيف على كل حصّة عبادة أديّتها لأجله قبل الحرب".
 شرعت توصف للولد شكل القذيفة:
- أنها كرة مدوّرة على شكل بالونة، لكنها محشوة بالمسامير وقطع حديد حادة وديناميت، ما أن تقع على الأرض تنفجر وتتناثر المسامير وشظايا الحديد.
صمت الطفل للحظات، همهم وسأل :
- لكن كيف يحشون البالونة بالمسامير والحديد دون أن تنشقّ وتنفجر بين يديهم؟
- هي بالونة من حديد.
سارعها الطفل بالسؤال:
- لكن كيف هي من حديد وتطير؟
- هي لا تطير، الطيارة ترميها من السماء.
طيب .. قال الطفل، صمت لبرهة ثم سأل :
-الذي يرميها هل يعرف بأنها ستنفجر وستقتل الناس على الأرض؟
- بلى ..يعرف.
- ولماذا يريد قتل الناس.. ماما؟
-لا أعرف !.
حين نطقت ام الطفل التي هي زوجتي بعبارة لا أعرف شعرتُ بأن عقلها عاد لصوابه. كنا قد اتفقنا بعد أن كبر طفلنا الأول وتمكن من صياغة الأسئلة بأن أفضل إجابة لأي سؤال يطرحه وتكون في الإجابة احتمال كره انسان آخر هي "لا أعرف"، لم توافقني زوجتي في حينه، قالت محتجة "الطفل سينمو على غباء، يجب أن نجاوبه ونرشده للمحبة"
عاد الطفل لسؤال أمه:
- آنه .. لماذا الكرد والعرب والترك يكرهون بعضهم البعض؟
أجابت الأم بنزق وغضب:
- لا أعرف ..لا أعرف.
سمعنا دوي قذيفة أخرى أكثر قرباً من الأولى، ثم ساد الصمتُ في القبو المُعتم وخارج القبو أيضاً حتى الصباح
هل سمعت يا صديقي ، لدي طفل معتوه لا يكف عن الأسئلة الغبية عن هذه الحرب الغبية. ماذا أفعل كي أخرسه؟

الخميس، 29 يونيو 2017

مقامر من الطراز السيء






محمد جيجاك
كنا حين ينفد صبرنا حتى ينقطع التيار الكهربائي لنتوقف عن العمل ونهرع مسرعين لمقهى “جميل هورو” القريب. كنا أربع مراهقين شغيلة ورشة الخياطة في حي الشيخ مقصود الغربي. نمكثُ في المقهى لساعات حتى يصحى ضمير موظف شركة الكهرباء ويقوم بإعادة توصيل التيار لنعود للعمل منهكين من اللعب وشرب الشاي الزنخ وتدخين عشرات السجائر. زميلنا خمشان صاحب أقذر لسان بيننا، كان يشتم أم موظف شركة الكهرباء في لحظة قطعه لتيار الكهرباء ولحظة وصله، أمّا أنا الذي كنت الوحيد بينهم أعرف القراءة والكتابة كنت أشتم الحكومة بدون ذكر اسم رئيس البلاد.
في أول يوم قطع فيه التيار الكهربائي ودخلنا المقهى لعبنا لعبة “التريكس” كتسلية لقضاء الوقت، لكن لعبة التريكس لا تستغرق أكثر من ساعة أما انقطاع الكهرباء يطول لساعات مما أجبرنا على تكرار اللعبة أكثر من مرّة فمللنا منها. في اليوم الثاني لعبنا لعبة “الكونكان” وجدناها تفتقر للمتعة وأنها لعبة حظ ولا يلزمها الكثير من الذكاء ومهارات المناورة. في اليوم الثالث لعبنا لعبة “البلوت” اللعبة التقليدية لعجزة الكرد، لم أكن أعرف قوانينها، تعلمتها على عجل، فتركناها بسبب أدائي السيء. في اليوم الرابع اقترح زميلنا خشمان أن نلعب لعبة “الفتوح بالعشرة” السريعة والخفيفة، وأضاف لاقتراحه شرطاً آخر ليضفي الحماس على اللعب، بأن الاثنان الخاسران سيدفعان ثمن القهوة عن الاثنين الرابحين أيضاً.اتفقنا وتحوّل لعبنا من اللهو المستهتر للمنافسة الجادة، فلم نعد نهتم بأمر الكهرباء إن طال انقطاعها أو قصر.
مضى شهر على الحكاية المأساوية للكهرباء، خلالها أصبحنا رواداً مياومين في المقهى، نلعب القمار وننتظر الحكومة حتى تعالج العطب في محطة توليد الكهرباء. كانت الحكومة تتحجج بشحّ ماء نهر الفرات في الصيف الحار، وتركيا تقول من حقها بناء سدّ أتاتورك العظيم والإستفادة من ماء نهرها والفائض عن حاجتها ستتركه لجيرانها، أما إذاعة الهيئة البريطانية من لندن التي كنت مولعاً بسماعها، لأنها أكثر إذاعة تأتي على سيرة الكرد في تركيا وايران والعراق، كان لها رأي آخر حيث كررت لأكثر من مرة أنّ تركيا بَنت سدّ أتاتورك لتحجز ماء نهر الفرات عن جارتها سوريا وأنها لن تطلق سراح الماء حتى تتوقف السلطة السورية عن دعمها للآبوجيين. بينما كانت الحكومتان تتبادلان الاتهامات وحبك المؤامرات ضد بعضهما كنا نرتقي بلعبنا لورق الشدّة صوب الاحتراف أكثر. كنت الوحيد من بين زملائي الثلاث أتابع أخبار سورية عبر محطات إذاعية خارجية، فكلما نقل الأخبار عن الآبوجيين أنهم نفّذوا عملية عسكرية ضد الجيش التركي قلت لزملائي اليوم ستنقطع الكهرباء ساعات إضافية أخرى.
عقب كل عملية عسكرية للآبوجيين صعّد كنعان ايفرين لهجة تهديده لسوريا، بينما حافظ الأسد ينكر بلغة باردة دعمه للآبوجيين، في المسافة الزمنية بين زعيق ايفرين ونعيق الأسد صرنا زبائن رسميين لمقهى القمار الصغير القذر.
تطور لعبنا من التسلية لدفع ثمن القهوة ثم لدفع ثمن الغداء “سندويشة فلافل على الأقل” ثم ارتقينا لذروة المنافسة حيث يراهن كل منا على النقود التي في حوزته والرابح يحتفظ بالنقود ويرحل لحال سبيله.
في التجربة الأولى للعب القمار وفق الأصول السرّية المتبعة في المقهى خسر زميلنا مستو خمسين ليرة، أنا لم أخسر ولم أربح شيئاً، ريزان خسر عشر ليرات، الرابح الوحيد كان خشمان، صاحب الاقتراح الذي لا يحمد عليه بتحويل التسلية لفعل منافسة جادة. حاول مستو أن يستدين من أحد ليكمل اللعب فلم يجد من يديّنه، شحب لون وجهه، صارت سحنته غامقة كبقعة القهوة الجافة على الشرشف البني الممدود على الطاولة الحديدية، ترقرق الدمع في عينيه، تأملت يديه ترتجفان من القهر، بدا قلبي ينقبض تعاطفاً مع مأساته، لكنني تماسكت ولم أديّنه المائة ليرة التي أخفيتها في الجراب داخل حذائي، كي لا يسهل عليّ إخراجها في لحظة انفعال. وكنت قد حلفت اليمين قبل الشروع باللعب بأنني لا أملك سوى عشرون ليرة. خشمان هو الذي ربح كل نقود مستو وريزان، وأخذ يضحك كالقحبة بملء شدقيه، ساخراً من الخاسرين. كان من الطبيعي أن يربح خشمان، لقد ورث من أباه مهارة اللعب بالقمار وأيضاً أخلاقه الوضيعة. شككنا بأن خشمان كان يغشّنا أثناء اللعب لكننا لم نتمكن من القبض عليه متلبّساً، وشكنا مرده أنّ أباه طُعن بسكين حتى الموت في المقهى بسبب غشّ مارسه أثناء اللعب. حلف خشمان أن أباه لم يغش إنما ربح مالاً كثيراً في ليلة رأس السنة، فراح يضحك فرحاً لحسن طالعه في العام الجديد لكن الخاسرون قتلوه غيظاً، أما جميل هورو صاحب المقهى “المطرب الزجلي المعروف في عموم كردستان” قال كشاهد عيان على حادثة قتل أبي خشمان ( أنه أكل ورقة ختيار الكبّة خفيةً أثناء اللعب على أنها فتات خبز منسي في جيبه ليتخلص من ورقة زائدة تعيقه على فرش الورق من يديه، حين انتهى من بلع فتات ختيار الكبّة فرش يده معلناً فوزه بتلة النقود الورقية على الطاولة.
لم يكن مشهدا مستو البائس وخشمان المتعجرف ليدفعانني للتريث والحذر في اللعب بأخلاق مقامر جبان، إنما اخترت مسبقاً أن أكون مقامراً من الطراز السيء، ذلك الطراز الذي يراهن بجزء يسير من نقوده، إن خسر ترك اللعب، وإن ربح مبلغاً بسيطاً أيضاً ترك اللعب بذريعة ما. ذات مرّة قال لي عجوز مقامر كان يراقبنا من الطاولة المجاورة: أنت لست بمقامر محترم. قلت وكيف يكون المقامر المحترم؟ أجاب : المقامر المحترم لا يخفي نقوده كي لا يراهن عليها إن خسر. مجّ سيجارة الغازي بين اصبعيه النحيلتين بعمق، نفث الدخان في الفراغ وأضاف: لو كنت مكان زملائك لطردتك من المقهى نهائياً. ملاحظة العجوز أحيا شعور الغيظ لدى زملائي، حيث كانوا يضيقون بقناعتي التي لا تليق بقمرجي غرّ، لكنهم لم يتمكنوا من إيجاد تعبير مناسب لتوبيخي، كانوا مفرطين في حماسهم التنافسي. أما أنا كنت أضحك طوال الوقت لا مبالياً، بين الفينة والأخرى أشتم كنعان ايفرين وحافظ الأسد اللذين ورطانا بهواية قذرة لا نهاية لها.
كان مستو يخسر غالباً، لسبب نقاء نيّته وقلّة خبرته في احتساب الورق، فيستدين من خشمان النقود التي ربح نقوده ليتابع اللعب من جديد على أمل استرجاع ما خسره. بعد بضعة أيام رزح مستو تحت رقم كبير من دين مستحق لخشمان. توجست بأنّ تسليتنا تسير نحو عاقبة وخيمة، طلبت التوقف عن اللعب نهائياً، وارجاع كل النقود للخاسرين، ونعود للعبة التريكس حتى يحل الاشكال بين ايفرين والأسد ويرتفع منسوب ماء نهر الفرات ويعود التيار الكهربائي لمجراه الطبيعي. كنت قد ربحت خلال شهر ما يقارب المائتي ليرة أعدتها لريزان الذي لم يكن مبالياً بالخسارة أو الربح لكنه وافق على التوقف عن هذه المهزلة، وطلبتُ من خمشان أيضاً أن يعيد لمستو ما خسره، رفض خشمان الفكرة كما توقعت. اقترحنا أنا وريزان أن يعفيه من الديون المتراكمة عليه في أضعف الإيمان، فهو زميل لنا ولا يعقل أن يدفع راتب ستة أشهر من أجل مزحة. ابتسم خشمان وقال بخبث:
- سأعفيه من الديون بشرط.
- وما هو؟ سألته
- أن يتنازل لي عن عشيقته زينب.


حدّقت في عينيه للحظات، استشفيت من انكسار نظراته أنه نذل وما طلبه لم يكن مزحة سمجة. استدرت عنه وبصقت في فراغ العتمة التي تسود الورشة حين تنقطع الكهرباء.

لا سماء فوق قبر مفتوح






محمد جيجاك

1


المرأة التي تجالسني الآن في مقهى على رصيف بحيرة لوتسيرن، جميلة جداً. كلما دارت وجهها عني لتتابع عراكاً طارئاً بين نوارس ضجرة، أختلس النظر بتمعن لتفاصيل وجهها، لا أحدّق في وجهها بفظاظة كما أفعل مع نصف الجميلات أو أدنى.
انتبهت "سابينا" لحدّة نظراتي اللصيّة لوجهها المائل نحو نورس نزق يمنع أصدقائه وصديقاته من الهبوط على مقربة منه، هزّت رأسها بإيحاء ليأسها عن إيجاد تفسير لرعونة هذا النورس، ومن أين يستمد شرعيته في بسط سلطته على هذه الرقعة من الرصيف! نظرت في عيني مباشرة، لثانيتين فقط، ابتسمت وطلبت منيّ قول ما أشاء في وصف حضورها الآن. في لحظة طلبها ترائ لي طيف صورة سالومي حين اقتحامها قاعة المحاضرة بزخم جمالها فتلعثم فرويد وأغمي عليه كمراهق يفاجئ بإكتشاف سر صادم. انحرف ذهني لتخيّل اسلوب ما لنهاية الحياة. صفنتُ لساعة على الأقل، فكّرت بأشياء عبثية كثيرة، منها، أنني أكره المبالغة في وصف أي ظاهرة ملفتة، وإن فعلت محرجاً، خرجت المفردات من فمي مرتبكة ركيكة الأداء، متوجساً أن ما أقوله يوحي بالتملّق أكثر من الصدق. الحياة علّمتني أنّ الشطّاح في وصفِه له عقل ذو شطرين، شطر للمدح والآخر للذمّ، فلا حرج لديه من رمي الموصوف من الشطر الأول للشطر الثاني وفق احداثيات المنفعة منه.
ساد الظلام، ضياع تفاصيل وجهها في العتمة أوحت لي بصورة أليمة متخيّلة، قلتها دون تردد مغمض العينين :
أكثر ما سيحزنني في القبر
أنني سأراقب بخنوع صورة وجهك
كيف تأكلها الدود في عينيّ
فتحت عينيّ لأراها عائمة على سفح الماء، وتدعوني للغرق بصحبتها.
2


بالأمس ارتقت شرفتي طابقاً آخر للأعلى، لتصل الثامنة والأربعون من العمر، لم أبالِ بما تعنيه هذه المناسبة في بلد يحتفون بيوم الميلاد كل سنة، كأنه حدث لن يتكرر مرّة أخرى. في وطني لم أحتفل أبداً بيوم ميلادي، لمَ عليّ تغيير عاداتي بمجرد تغيير إطلالة نافذتي ولغة الترحيب للمارة ؟
يوم ميلادي في الوطن كنت أحتفي بنفسي بشكل مختلف عن التقاليد المستوردة، وأفرح لسبب لا يتوقعه المحيطون بي. يصدف أن أتعرض في يومها مرات عديدة لسؤال :
- كيف الحال؟
أعلم أنهم لا يعلمون أنّ اليوم هو يوم ميلادي، أبتسم بلا مبالاة وأردّ:
- نحو الأفضل
البعض يكتفي بقول الحمد لله ويمضي. ثمة من تثيره إجابتي غير المألوفة في بلد التعاسة المفرطة. يلحقني بسؤال فضولي استفساري:
- وكيف سيكون نحو الأفضل ؟ تكرّم علينا وأرشدنا للخلاص يا معلم.
أدير وجهي عنه وأقول بثقة:
- تقدمتُ ميلاً آخر صوب زيارة "حنّان"*، هناك ينتظرني الأفضل الذي أسعى إليه
يبتعد عني متمتماً:
- يا رب ارحمنا
كلّما علوت طابقاً هبط مستوى نظري أربعون طابقاً، غاص تأملي لعمق ألف ميل في الذاكرة
. الأفق لم يكن يعني لي في أي تأمّل أبعد من خطوة ولا أقصر من مدى تبدد دخان سيجارتي في الفضاء اللانهائي. يطيب لي من هذا العلو أنني لا أُبصرُ سواي، صامتاً كصخرة لا يطأها الرعاة لتفقد الرعي، بليداً كقبّرة حبلى برائحة التراب الرطب، خاملاً كقشّ في غابة نائية، من شرفتي التي تغيرت ولم أتغير معها، أستمتع بشغب العصافير كطفل مشلول لا يقدر على المطاردة من شجرة لأخرى على امتداد الشارع الطويل. فقط أتسائل: لما العصافير هنا لا تخاف من نظراتي الوقحة كما في وطني الذي هربت منه؟
هذا الصباح فتحتُ صندوق رسائلي، وجدتُ خمس رسائل تهنئة بميلادي، أربع منها أصدقاء جدد، لا أجيد لغتهم ولا هم يثيرهم معرفة لغتي، معرفتهم بي لا تتعدى أنّي غريب حملتني الرياح إلى قريتهم من عالم آخر، وواحدة من صديقة عتيقة لم تبارح الوطن والحرب، على أمل عودتي والإلتقاء بي مجدداً على رصيف المقهى ذاته الذي دمّر بقذيفة مقصودة.
أجبتُ برسالة واحدة على أصدقائي الخمسة :
" طوبى لذاكرتك التي لم تنس تذكيري بيوم ميلادي .. أنّي بخير.. أحبو نحو الأفضل "

...........................................
* زيارة حنّان : مقبرة شهيرة في منطقة عفرين





صورة رجل مفقود







محمد جيجاك

هذا المساء في جلستي اليومية على رصيفِ البحيرةِ سأحتالُ على المدى الشاسع، أقلّصُ بُعدَه المديد لحتّى ملامسة ملامح وجوه الشخوص في ذاكرتي القصية. سنتان أرتادُ هذا الرصيف الكئيب، أبحلقُ في الغياب ساعات، كثور مترهل، مشدوه من كاسر يتربص به، أجني لسعات هواء قطبي بارد، يتغرغر الماء في سخونة عينيّ، يتغبّش سفح البحيرة، أُخفق باستحضارِ صورة نقيّة لأكسر بألوانها كأس عرقي الليلي. كل ليلة حين تتوارى النوارس في أوكارها، أتوارى مثلها في أزقة المدينة، جعبتي خالياً حتى من جيفة الكلمات، لأسدّ بها رمق وحش الوحدة الذي يحاصرني أينما ذهبت :
أيها المدى
تكوّر..لمغص طارئ في أحشائِك على الأقل
لي معارف كثر ضيّعوني في عبطة الثورة
قد يبحثونَ عن أثرٍ لي بين ركام الأزقة
يتربصون بي:
"سيمرُّ من هنا هذا الصباح"
" سيعود من هنا في المساء"
"من هنا كان يسير مطأطأ الرأس إن ضاق به العالم"
أيّها المدى
كُن حبلاً متيناً
من قنّب أو حرير أو ضوء مصباح
أشدّك من آخر ما تبصره عيناي في عتم البئر
عيناي مغمضتان، أفتّش جيوب الفراغ بحثاً عن رأس الحبل لأشدّه أو يشدّني إلى أقصى ما يريد.
ربت عابر بلطف على كفيّ ضاحكاً متسائلاً :
- هيييي..هل عُميتَ أم أنّك تمارس اليوغا ؟
فتحتُ عيناي في منتصف الصعود الوعر صوب السماء، إذ بصديقي الايراني "قدرة الله " بضحكته الثعلبية فاجأني بحضوره، كالعادة كغرّ حديث العهد بتدخين السجائر مدّ يده على الفور إلى جيبه، أخرج كنزه الصغير، ضيّفني حفنة خضراء كوجبة دواء لمعالجة الخمول الذي وجده في صوتي :
- خذ حفنة ضِعها بين شفّتك وأسنانك
- ما هذا ؟
- هذا طارد للصور من ألبوم الرأس. أعرف ما بك، كنتُ مثلك، جلستُ على هذا المقعد خمس سنوات ولم أجني سوى الخراب لروحي.
" قدرة الله " يحكي بروح مرحة، بينما كنت أسير فراغ مستبد على ذهني، تناولتُ الحفنة الخضراء الرطبة، تأملتها بلا أدنى فكرة مسبقة عنها.
حدّق في وجهي ملياً، مسكتشفاً جهلي في التعامل مع هذا الدواء، قال بحزن:
- لا تفكّر بشيء، انسَ الماضي، ابدأ حياتك من جديد
حشرتُ الحفنة الخضراء بين شفّتي العلوية وأسناني الصفراء، رحتُ أترقب ماذا سيحدث لي وللمدى الذي أنتظر انقشاعه منذ أربعين سنة.
صديقي "قدرة الله" راح يشاغب مع النوارس على الرصيف العريض، ينثر لها الرذاذ الأخضر، تشتمّ النوارس مذاقه المرّ، تزعق مستنكرة حيلة "قدرة الله" وتفرّ بعيداً إلى عمق المدى. يضحك "قدرة الله" كممسوس ابتكر لعبة مسليّة، التفت إليّ قائلاً بتقطع في أنفاسه :
- هذه النوارس لا تعاني العطب في ذاكرتها مثلنا، هي لم تهاجر من المحيطات إلى هذه البحيرة الصغيرة.
ويتابع ضحكه كفاجر فاشل في اصطياد فريسة.
دَنَت منه فتاة متوسطة الطول، سوداء الشعر، شاحبة الوجه، مهلهلت اللباس، مدّت يدها تطلب منه حفنة من ذاك الأخضر الرطب الذي ينثره للطيور. هَمسَ " قدرة الله" في أذنها وهو يشير إليّ، التفت الفتاة إليّ وتقدّمت صوبي لتجلس بجواري. مرّ خمس دقائق من الصمت بين ثلاثتنا، ذوبت الفتاة الحفنة في فمها، شرعت تعرّف عن نفسها:
-اسمي ديانا، أمي كولومبية أبي فنزويلي، تزوجتُ في الثامنة والعشرين من عمري من رجل سياسي معارض لتشافيز، في يوم ميلادي الثلاثين قررنا أن نحتفل سوياً بدون أصدقاء، أول المساء خرج زوجي " كارلوس " ليبتاع بعض الشموع الناقصة، لكنه لم يعود لحتى الآن، منذ عشرة أعوام أجوب العالم بحثاً عنه. أخرجت صورة مشوهة المعالم من مفرق صدرها، دعتنا نمعن النظر فيها بالتناوب، ثم سألتنا إن كنا نعرفه أو صادفناه في مكان ما، طالما نحن أيضا جُبنا بلاداً كثيرة؟
تبادلنا النظرات بدهشة أنا و"قدرة الله"، كل منّا خمّن أنّ صورة الرجل هي صورته قبل عشر سنوات. حدّقت ديانا في وجهينا بعينيها الغائرتين، بحثاً عن فكرة ما في ملامح كل منا أو في مخيلتها؟ فجأة قهقهت بصوت عال وقالت :
- " كدرة الله " أعطني حفنة أخرى، حين أنتهي من تذويبها سأخمّن أيّ منكما هو صاحب الصورة؟