الثلاثاء، 23 مايو 2017

الرهان الأخير

ِ
                                      


     محمد جيجاك

أجمل بضع سنوات من حياتي تلك التي أصبتُ فيها بهوس المراهنات.الحياة إستحالت أمامي لأرقام فقط، كل مشهد غريب أصادفه أحوله لرقم، حفظت كل الأرقام في هاتفي النقّال، حفظت أرقام سيارات كثيرة، حفظت أعوام ميلاد أغلب الشخصيات الشهيرة في العالم، حفظت تواريخ الاستقلال لأغلب دول عالم الثالث، حفظت أسماء كل رؤوساء الولايات المتحدة و أعوام حكمهم. خلال بضع سنوات خضتُ منافسات قاتلة، مارست خدع لذيذة، وضحكت كثيراً، وفرحت بضآلة لكسبي المال، مرات قليلة حزنت لخسارة من بين خسارات لا تعد ولا تحصى.
 كان هاجسي هو البحث عن لذّة المصادفة وليس كسب المال. حين تختار رقماً من بين ألاف الأرقام ويصدف أن تتطابق مع رقم الرابح، يا لها من لذّة لا توصف !
في البداية كانت مراهناتي على مباريات كرة قدم، محلية دولية لا فرق، لم أهتم بمعرفة اسم الفريق ولا الإنتماء القومي للفريق، حفظتُ بعد تكرار أسماء فريق برشلونة وريال وفريق الجيش السوري الذي إن خسر نكّد الفرح على خصمه وحوّل ساحة الملعب لمعركة بين الجمهورين. غالباً كنت أخوض الرهان وأنا ثملٌ، في مطعم صدفة ظهرت مباراة على شاشة التلفاز فبرمنا الرهان مع ندمائي، لا أبالي بالمعلومات عن الفريقين، حتى أراهن على الأفضل، يكفي أن يعجبني لون بذلات الفريق لأراهن عليه “ أريد الفريق الأخضر المخطط بالأصفر ” ذات مرّة بسبب اعجابي بلون بلوزات الفريق راهنت عليه وهو خاسر 2-0، بالطبع خسرت الرهان، لكن الكل بما فيهم خصومي قالوا “ خسارتهم كانت ظلماً من الحكم الأمريكي”.
 لم أحتجّ يوماً على نتيجة مباراة كما يفعل الأغرار الجدد، لم ألعن حظي يوماً،  حتى أنني لم أندم لأنني لم آخذ بنصائح كرسون المطعم الخبير بقدرات كل فرق كرة القدم المحلية والعالمية،دائماً أشعر براحة ضمير لأنني لم أراهن إعتماداً على اقتراحات غيري، وأنّ ما أفعله هو استجابة صادقة لاحساسي الداخلي.
حين ارتقيت منصة الاحتراف بتّ أعتمد على أحلامي، استنبط منها أرقام المراهنة، يصدف أن أرى زعيماً في الحلم، مهما كان قدر الزعيم وعظمته وحجم شعبيته حولت اسمه لأرقام، مجرد أرقام، من الواحد حتى المائة، حسب ترتيب أبجد هوز، نادراً كنت أستعين بخبرات المراهنين الطليان الفطاحل في تفسير الأحلام وتحويلها لرقم. لم يصدف أنّي كسبتُ رهاناً من اسم زعيم، رأيت نيلسون مانديلا خسرت، رأيت البرزاني الأب والأبن خسرت، رأيت عبدالله اوجلان خسرت، رأيت لينين خسرت، رأيت ماوتسي تونغ خسرت، رأيت بن لادن خسرت، رأيت بيل كيلنتون خسرت... في الليلة التي أرى فيها زعيماً كان يركبني الشؤم طوال اليوم التالي، لكن لا بد لي من المراهنة على معطيات الزعيم الذي رأيته، هكذا كان العُرف والالتزام الذاتي بأصول المراهنة.
أغلب المراهنات التي كسبتها أدين بها لنساء رأيتهن في الحلم، نساء أعرفهن ولا أعرفهن، صديقات لا علم لهن بأحلامي عنهن، جارات دائمات الشكوى عن تعاسة أزواجهن، ممثلات جميلات، راقصات مثيرات، شاعرات في أول صعودهن على المنابر، مثقفات لم يغفلن عن التبرج في الأماكن العامة. ذات حلم غريب رأيت نوال السعداوي في قاعة المحاضرات، كنت الطالب الوحيد في القاعة، شَرحت لي مطولاً مصطلح عقدة الخصاء، فجأة كشفت عن عريّها وذهبت إلى المطبخ لتصنع القهوة، شعرت بحرارة الدم يسري في أنحاء جسدي، حين عادت مع القهوة أطفأت النور، لا أعرف لماذا؟ وبعد خوضي مغامرة لذيذة معها أشعلت النور لأرى ما حدث، وإذا المرأة التي مارسنا سويا المغامرة كانت ريتا هيوارث !  
مع اندلاع الثورة في بلدي توقفت عن المراهنات بالمال، دخلت سلك السياسة كخبير عتيق، وراهنت زملائي على أن الثورة ستنجح. زملائي المحترفون بالمراهنات نصحوني بالإبتعاد عن هذه المغامرة، قائلين : إن راهنت على أقوال الساسة ستخسر حتى كيلوتك أو ربما حياتك. لم أبالي بنصائحهم، استجبت لحدسي واحساسي الداخلي، وأشياء غامضة كانت مركونة في قاع وجداني.
راهنت  بدايةً على الثوار المتظاهرين ضد النظام، بعد أشهر راهنت على العلمانيين ضد الاسلاميين والنظام، بعد أشهر راهنت على من يكتفي بسجن خصومه ضد الذين يقطعون الرؤوس ويفسخون الأجساد في أقبية أمن النظام، بعد أشهر راهنت بأن أنفد بروحي من هذه الدوامة ضد الرصاص الذي يهطل من كل صوب على بيتي. 
بين صمت وصمت كنت أطلّ برأسي من نافذة غرفتي في الطابق الخامس المطلّ على الشارع الرئيس في الأشرفية، أقرأ ببطء وتلعثم الإعلان المدوّن على سفح السماء الزرقاء “ البضاعة التي نشتريها لا ترد لأصحابها حين الندم”. أغلقت النافذة، استلقيت حيث اتفق في عتمة غرفتي، رحت أصغي بنقاء لهدير طائرة حربية تقترب وتدبر بصحبة رشقات رصاص في المحيط القريب تأتيني كنعيق سرب غربان مذعورة. رويداً رويداً قادني العتم المقيّد بجدران محكمة إلى الاحساس باللاشيء. تماهت ذاكرتي مع العتمة العميقة. فجأة وثبتُ من قاع سحيق في العدم، قرّرت بلا تمحيص في عواقب قراري، أن أبيع وطني وبثمنه أشتري فيزا لأي رقعة لها سماء مفتوحة، تلك الصورة الشعرية الوحيدة كان تأسر مخيلتي حين اتخاذ القرار.
 لم أجد من يدفع لي ثمن تنازلي عن حصتي من المساهمة في تدمير الوطن، كل التجّار كانوا منشغلين بشراء الرصاص وخرائط حربية وربطات عنق تناسب منابر فاخرة في صالات محتشدة بالإضاءة والضوضاء.
قايضت وطني بالهواء الذي سأستنشقه بعيداً عن رائحة البارود، هكذا ساومت نفسي وعزمت على الرحيل خال اليدين والذاكرة، بلا زوادة تقيني العوز في الطرقات المتطرفة الوعرة، بلا ألبوم صور لأقربائي الحميميين لأصدقائي المراهنيين، لجيراني النزقيين للمدينة التي ولدت فيها وكبرت فيها وبكيت وفرحت فيها، نزحَت عارياً ككلب ممزق الخشم فاقداً احساسه بالجهات.
 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق