الثلاثاء، 27 يونيو 2017

تشييع ابتسامة

                            
                                           


                                                                                 محمد جيجاك

المرأة العابسة نعش الوقت، إن زارت حديقة فرّ الخضار من الشجر، تعرّت الورود من ألوانها، تحول المكان لمقبرة. تلك المرأة المتواجدة بكثرة، أينما صادفتها أدرت وجهي عنها:
 في مطبخ البيت، فقدت شهيتي للأكل
 في غرفة النوم، تتحول شهوتي الجنسية لكتلة بوظ تسير في دمي
 كلّما مرّت من أمام شرفتي، انقلبت إطلالتي لمشهد مغبّر بلا تفاصيل
 إن جلست على المقعد المقابل لي في القطار، استغرق القطار دهراً حتى المحطة التي أريدها
 في مكتب العمل، كلما التفتُ إليها بجواري قرأتُ أسماء موتى الكوميديا على شاهدة وجهها
على شاطئ البحر مساءً، مرورها يفسِد ألق المدى ويلوّث رائحة الجمال في كل تفصيل
على طاولة البار في عمق الليل، تصير  كالقرّاد، تمتص الغول في النبيذ لتحوله ماءً لا نفع فيه ولا ضرر
كعادتي كل مساء، أمشي ببطء يائس فوق الجسر الكبير الذي يربط جديد المدينة بقديمه، ظهر الجسر مزدحم بالغرباء، “الغرباء يبتسمون ببلاهة لكل شيء” اعترضتني امرأة خمسينة نحيلة، شعرها فضّي قصير، ترتدي بنطال جينز متسخ، تنتعل خفّ أبيض تشي عن أنها محتفظة برشاقة صباها، ابتسمت لي وطلبت مني أن ألتقط لها صوراً متعددة فوق الجسر. ولأنني غريب قبلت الانصياع لطلبها،” الغرباء مطيعون في كل شيء” شرحت لي كيف استخدم كاميرتها الصغيرة، تراجعت خطوتين لتسند ظهرها على درابزون حافة الجسر، قبل اختياري زاوية التصوير لإظهار مساحة كبيرة من البحيرة وخلفها الجبال العالية وبضع بيوت متناثرة على تلّة خضراء، رفعت يدها وقالت مستدركة:
- حين يمر سرب النوارس من خلفي اكبس زر اللقطة
- أوكي..
 طلبها لانتظار النوارس أتاح لي التلصص على ابتسامتها بإمعان،“ أنا أجيد التلصص على مفاتن النساء منذ صغري، حين لمحت خلسة سيقان جارتنا لما فوق الركبة وهي تنشر الغسيل على السطح” قرّبت وجهها بزووم العدسة لأقصى ما يمكن، التقطت عشرات الصور العشوائية لإبتساماتها. لم أهتم بمؤخرتها الزاخرة كنضج إجاصة، فأنا الآن في العام الأول من عمر اليأس، واليأس يرتقي بالنظر من حضيض الشجرة لشموخها في الأعال. مرّت خمس دقائق ولم يمر أي نورس في حيز اللقطة المفترضة.  كل نوارس البحيرة كانت تشاغب في سماء يختٍ كبير راحلٍ للضفة الأخرى. انتبهت المرأة اليائسة من حظها أنني ألتقط لها الصور بدون النوارس، اقتربت وأخذت الكاميرا من يدي، وطلبت مني بود الإنتظار إذا لم يكن لدي ما يشغلني، وافقت بسرور قائلاً في نفسي “ أكون أحمقاً إن تركت ابتسامتك وغادرت لحتفي بدونها” اطلعت المرأة على اللقطات التي أخذتُها، كلّما قلّبت صورة رمتني بنظرة متسائلة. أغلقت الكاميرا وأدارت وجهها للبحيرة، أرخت رأسها على يديها فوق الدرابزون وشردت في سفح البحيرة الواسع بصمت عميق. من بعيد كان سرب النوارس يعود بشغب مفرط، فجأة التفتت لتتفقد وجودي، وجدتني واقفاً في مكاني أشاركها الصمت، لمحتُ الدمع يسيل ببطء على خدّيها الحمراوين، سألتني:
- هل تريد الإحتفاظ بالصور الموجودة في الكاميرا؟
- إن لم يكن لديكِ مانع
- إذن.. خذ لي آخر صورة قبل أن تغير النوارس رأيها وتبتعد
ناولتني الكاميرا من جديد، صعدت برشاقة لاعبة سيرك لتقف على الدرابزون، فتحت ذراعيها لهواء صيفي خفيف السرعة، ابتسمت بملء فمها، أغمضت عينيها، ما أن سمعِت طقّة الكاميرا حتى مالت بجذعها للوراء وتهاوت في البحيرة.
في صباح اليوم التالي تصدّرت صورتها بإبتسامة عريضة الصحفة الأولى لكل الجرائد المحليه، كتب فوق الصورة ( انتحار امرأة مجهولة الهوية، لسبب مجهول، برمي نفسها من فوق الجسر الكبير للبحيرة. البحث جار عن شخص غريب ذو سحنة سمراء كان يصورها لحظة انتحارها).
 على طابعة صغيرة في بيتي طبعت ألاف الصور لابتسامتها، طيّرتها دفعة واحدة من فوق اليخت، فزعت النوارس، علت بأصوات زعيقها حتى استنفر أهالي المدينة – الغرباء والأصلاء – وتوافدوا أفواجاً لحضور تشييع آخر ابتسامة في مدينتهم، ابتسامة امرأة مجهولة الهوية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق