الثلاثاء، 23 مايو 2017

العدّ حتى العشرة


                     


محمد جيجاك

 لم تغفل أمي ولا مرّة عن تحذيري وتنبيهي قبل خروجي للعب في الشارع " لا تتعارك مع أحد، تعلّم العدّ للعشرة قبل الرد على أي اعتداء عليك، قد يكون تطاوله عليك مزاحاً، تذكّر أننا فقراء ولا نعرف أحد في هذه المدينة الكبيرة" أمّا أبي لم يكن يحذّرني بدايةً إنما كان يضربني بعنف مباشرة بسبب أي شكوى من طفل ضربته رداّ على ضربه لي، أو أعدت له الشتيمة التي قذفها في وجهي، أو لأي سبب آخر. يصفعني أبي ويذكّرني بعبارة أمي "عليك أن تعدّ للعشرة قبل الردّ على أحد". علّمتني أمي العدّ على أصابعي للعشرة حتى أتخطى الاعتداءات عليّ بسلام.
في مدينة حلب الكبيرة تعرّضتُ للكثير من الاعتداءات العابرة، كان يفترض بي أن أرد بما هو مناسب، كنتُ أنسحبُ لداخلي وأعدّ للعشرة ولا أفعل شيء. هكذا.. مرّنتُ نفسي على العدّ شفهياً في سرّي كي لا أحسّس الذي يغيظني أنني تخطيتُ العدّ لبعد العشرة ولم أفعل ما يجب فعله. مع الأيام صرتُ أعدّ للمائة.. للألف..للمليون..حسب الزمنكان ومقدار هول التحدّي. حين فوضى الزحام أمام الفُرن أعدّ لمدة نصف ساعة، لساعة، أو لساعتين، إلى أن أحصل على الخبز أتوقف عن العدّ. في زحمة باصات النقل الداخلي أدير وجهي عن رائحة الأنفاس الكريهة والذين لا يزيحون " أيورهم" عن مسّ مؤخرتي حين شقّ الزحمة في عبورهم أعدّ بتوتر. في أول خطوة لدخولي دائرة حكومية حتى أغرب عن وجه الموظف المستبد أعدّ بصمت. حين أزمات السير المزمنة وزعيق زمامير السيارات التي لوّثت سمعي وأحدثت في أذنّي طنين مستدام كنتُ أعدّ بصوت عالٍ. إن صادفتُ رجلاً متعجرفاً و"قحبي" النظرات على خصره مسدسٌ أطول من قضيبه أدير وجهي عن منظره المقرف وأعدّ باحتقار. كلّما رأيتُ صورة رئيس الدولة أو مالك الدولة أو معلم الدولة أو قاهر الدولة لا شعورياً أباشر العدّ في سرّي. مساء كل ثلاثاء بعد تأكيد خسارة الرقم الذي راهنت عليه في لوتو اليانصيب الوطني أحرق السجائر بتتال وأعدّ شتماً. منذ أول يوم لزواجي صار العدّ بالنسبة لي كالهواء الذي أتنفسه في كل لحظة.
سيرتي الشخّصية محض رقم لامتناهٍ، يصعب كتابته وقراءته.
ذات مرّة جرّبت ألّا أتخطى العدّ لبعد العشرة (أعتبر تلك التجربة الفريدة لحظة مضيئة في سيرتي الشخصية) حدث أنّ صديقاً نصف حميم طَعن بأخلاقي أمام الغرباء. نويتُ أن لا أمرّ مرور الكرام على إهانته لي، لمحته قادماً نحوي، شرعتُ بالعدّ على أصابعي، حين مدّ يده للسلام كنتُ قد وصلت للرقم عشرة، تنهدتُ بعمقٍ وقلت له بحزم وإصرار لم أعهدهما سابقاً في سلوكي :
- أنت شخص سيء ابتعد عني.
انتابني حزن شديد وأنا أتابع صديقي بنظراتي، مدبراً عني مطروداً للأبد. داهمني شعور بالكآبة لبرهة طويلة، فجأة انزاحت الغمامة السوداء عن سمائي وغمرني شعور مطلق بالأريحية.
للأسف لم أتّخذ من تلك التجربة الناجحة قاعدة دائمة لسلوكي، الإكتفاء بالعدّ للعشرة وتنفيذ الإجراء المناسب، بعد أيام عدّت مجدداً للرزوح تحت سطوة العدّ لأبعد من العشرة.
بعد سنة من نزوحي عن مسقط رأي وإقامتي في أرض غريبة، أصبتُ بحالة من الشرود المستمر، نبّهني بعض الأصدقاء والأقرباء وطبيب القرية أيضاً أنني أشكو من عطبٍ ما في أخلاقي، أجمعوا على أنني بتّ نزقاً، عدوانياً اتجاه كل ما يحيط بي! وأنني بين حين وآخر أخسر صديقاً أو قريباً لسبب تافه حسب تقديراتهم. وأنني لم أعد الرجل المتسامح، ذو الصدر الواسع، المتعالي على توافه الأمور.
وقفتُ أمام المرآة طويلاً أبحلق في صورتي بحثاً عن العطب الذي تحدثوا عنه، اكتشفتُ أنني منذ سنة لم أمارس العدّ لبعد العشرة، تذكّرت، ذات مرّة قلت لأحدهم أنت منافق، لكن قلتها بعد أن عدّيت للعشرة حين لم يكف عن كذبه حتى قبل العشرة، فاتّخذت بحقه الإجراء المناسب. ثمة آخر كان يدّعي على ما ليس فيه فضقت به، عدّيت للعشرة ولم يصمت عن متابعة تبجحه، وصفته بالساقط وطردته. وآخر ...وآخر...
 أيقنتُ أني شفيتُ من داء العدّ لأبعد من العشرة (العدّ للعشرة مسافة كافية جداً لتحمّل صفاقة الآخر) بصقتُ بغزارة على سيرتي الشخصية المعكوسة على وجه المرآة،  تحطّم الزجاج تحت ثِقل الماء اللّزج المشحون بذكرياتي المخزية في مسقط رأسي.
صنعتُ من غصن الورد على شرفتي مسطرة بمسافة عشرة سنتيمترات، ورحتُ أتربصُ بكل من لا يروق لي، أمسكه من لسانه النظيف وأبطحه على المسطرة، إن كان طوله دون العشرة أبقيته صديقاً أو قريباً على مسافة من الحذر، أما إذا كان طوله أبعد من العشرة شطبتُ اسمه من ذاكرتي للأبد.
        



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق