الثلاثاء، 23 مايو 2017

مسقط رأسي


                          



    محمد جيجاك

بعد صفنة طويلة على مقعد متطرف عن رصيف البحيرة، الملاذ الوحيد للغرباء في مدينة لوتسيرن، صديقتي الكولومبية “ديانا” الهاربة من وطنها مثلي كسرت صمت المكان وسألتني بصوت هامس مُنهار :
- بماذا تفكر؟
-هذا الليلة سأكتب نصّاً مختلفاً في المحتوى والشكلّ.
-لا تغيّر كتاباتك عن المتشرد، في كل يوم لديه صدفة مثيرة
- أوكي..
-انتبه..الكاتب السيء هو الذي يكتب عن حالات لم يعشها
-ما الفرق، طالما هو مُقنع ؟
- الفرق، هو خبرة الحسّ الصادق بالشيء أوالإيحاء بالحسّ الصادق بغطاء لغة حاذقة أنيقة.
- كتبتُ عشرات النصوص عن اللجوء والتشرد منذ اجتيازي حدود بلدي لأسلك دروب التيه في جهات الأرض. قارئي لم يصرّح بعد بملله من قراءة نصوصي المجترّة المواضيع كمضغات البعير الكسول، إنما حدسي يخبرني بإنخفاض درجة حماسته في قراءة نصوصي الأخيرة، لا شكّ أنه محق، أعرف ذلك من نفسي، فأنا قارئ أولاً وأخيراً، أمّا تورطي بالكتابة كان محض صدفة ولدت في زمان ومكان مناسبين للثرثرة، صدق من قال: الغربة تربة خصبة لنمو الثرثرة الأدبية. عشرات الكتّاب اكتشفوا مواهبهم في الثرثرة الفنّية على أرصفة التشرد في بلاد بعيدة عن مساقط رؤوسهم. نعم أنا قارئ وسأبقى قارئ للأبد. أهوى قراءة الحكايات في وجوه الناس أكثر من قرأتها في الكتب، على سفح كل وجه مدوّن حكاية ما، منها حكايا مملة ومنها ما تزخر بالحيوية المتجددة في كل لحظة. لكل قارئ جيد باع واسع من النزق المشروع، يجب أن يمارس نزقه حين ينفرُ من قراءة حكاية مملّة، وإلّا فهو ليس بقارئ جيد، قد يكون ناقداً غرّاً، مرغماً على اتمام قراءة أي هراء ليكتب عنه مادته الأسبوعية في جريدة محلية محدودة القراء. أو قد يكون قارئاً من ذوي ربطات العنق الأنيقة، مصابٌ بداء استعراض أسماء الكتّاب والكتب أمام زملائه المثقفين من الدرجة الثالثة، في محصّلة استعراضه تكتشف أنه لم يقل جملة مفيدة من ابتكاره!
هذا المساء سأبتعد عن اجترار الذكريات لأؤلف من صورها الباهتة قصصاً وحكايا مستهلكة قبل قرائتها، سأكتبُ عن راهني، حتى المستقبل لن أكتب عنه، ما أدراني لما ستؤول لها الأمور غداً؟ سأفتح ذهني على مصراعيه وأكتب كمنتمٍ للعالم بأسره، سأمزّق عباءة انتمائي لبقعة جغرافية ثقافية ضيقة المساحة، تلك العباءة التي ضاقت بي  وجعلتني أمشي كبطريق مختال بخوائه. (ليذهب غاستون باشلار وأضرابه وتنظيراتهم عن جماليات المكان في الطفولة إلى الجحيم) أي هراء هذا؟ أهرب من مسقط رأسي بكامل ارادتي ثم أكتب مطولات عن الحنين والشوق إليه!
 طالما آمنت أنّ الإنسان “ مقذوفٌ في هذا العالم” فكل معلومة في ذاكرتي مصدرها العالم من أقصاه لأقصاه هي لبنة في جدار عالٍ، تسمى شخصيتي الراهنة.
تأكيداً على ما أدعيه بأنني أنتمي للعالم.. في صيف السادسة من عمري دخلتُ السينما لأول مرّة، شاهدتُ بدهشة فيلم رينغو للممثل الإيطالي جوليانوجيما، مضى أربعين سنة وما زلت أحفظ في ذاكرتي كل تفصيل في صور رينغو. في مراهقتي لم أفوّت مشاهدة فيلماً واحداً لبروسلي، ماشيستي، وهرقل، كنت معجباً بأساطير هؤلاء كما إعجابي بأساطير عنترة بن شدّاد، الزير سالم، وصلاح الدين الأيوبي. تابعتُ بذهول فالنتينا تريشكوفا تطير بمركبتها صوب السماء. حين مشاهدتي أفلام وثائقية عن قبائل الزولو  وآوا غواجا وحضارة الأزتيك سرحت بعشرات الأسئلة، مازال بعضها عالقة بذهني. قرأتُ بلهفة قصص غوغول، غوته، وميشيما، آلان بو، وماركيز بشغف قراءتي لعمر الخيّام،  المتنبي، أحمد خاني، ونجيب محفوظ. حين فشلت في ادراك الله في القرآن بحثتُ عنه في تعاليم  كونفوشيوس، زرادشت، المسيح، الديلاي لاما، غاندي، ومارتن لوثر. قضيتُ مئات الساعات - نصفها نوماً - أمام مسلسلات والت ديزني. حلمتُ عشرات المرات بمضاجعة ريتا هيوارث، راكيل والش، وفرح فاوست، تماماً مثل أحلامي عن النساء المثيرات في حارتنا الشعبية. معظم أحلام يقظتي قضيتها على شواطئ هاواي، جزر الأوز البرتغالية، وفي قصور اشبيليا. استمعتُ بكل أحاسيسي لفرقة البوني إم، ال آبا، ديميس روسس، وعارف صاغ، كما استمتاعي  بأم كلثوم، محمد عارف جزراوي، فريد الأطرش، مارسيل خليفة، وشفان. أشبعت بصري الصحراوي بألوان رامبرابت ومونيه وشاغال و...
أستطيع القول بجدارة وبلا تحسّب لغضب أبناء ملّتي أنني – وأنتِ أيضاً- ابناء العالم، شرقاً، غرباً، جنوباً، شمالاً.  بعبارة مكثّفة “ مسقط رأسنا هو العالم، كل مافي الأمر أنني من جبال عفرين وأنتِ من سهول لالاندا، ونحن الآن في لوتسيرن “.
تنحنحت ديانا من غفوتها، ربما سمعت اسم بلدتها في سياق استرسالي الطويل لتوضيح  سبب كتابتي نصّاً مختلفاً. ربتت على كتفي وقالت بنصف صحو :
- سأذهب للبيت أنا متعبة، غداً أنا سأشتري الماريوانا، لقائنا كالعادة في التوقيت ذاته، جاو جاو ..  



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق