الثلاثاء، 27 يونيو 2017

وحي برائحة العَفَن


                                                   
                                                
           

    - محمد جيجاك -


قبل اسبوعين اجتاحتني موجة من الاحباط الغبي، الواسع النطاق، شردتُ ليومين، استحال ذهني لفضاء مليئ بالهواء الساكن، لم أستطع أن أعثر فيه عن معلم أفسّر به احباطي. تحسّست جسدي إذ يَرشَح من مساماتي سائل له مذاق غريب، قريب من مذاق العنب على تخوم تعفنه !
 بعد صفنة طويلة فجأة خطر لي كتابة رواية.
 يقال: الإحباط بلا سبب واضح قد يكون تراكم لشحنات ابداعية يتعثر المرء في إفراغها ؟
 تزامن التفسير الأوليّ لسبب احباطي  مع رأي شائع حفظته عن أصدقائي الكتاب والفنانين “من الألم تولد الكتابة”، وبعضهم، الأكثر تثاقفاً، كان يقول “ القلق أرض خصبة للإبداع”.
 قبل البحث عن فكرة الرواية المزمع كتابتها، جهّزت غرفة خاصة بمعدّات الكتابة. أرغمتُ ابنتي على إعارتي طاولة دراستها، أقنعتها بكتابة وظائفها على الأرض، كما كنا نفعل ونحن صغاراً في بلادنا، أعطيتُ ابني ذو العشر سنوات ثمن بلايستيشن كي يتخلى عن دوره الثلاث ساعات في اليوم لإمتلاك الكمبيوتر المحمول الوحيد في البيت، ترجيت زوجتي لساعة حتى أقنعتها أن تترك لي الغرفة وتنام في غرفة أحد ولدينا، صنعتُ درباساً محكماً لباب غرفتي، بحيث يمكنني قفله من الداخل، كي أكبح فضول زوجتي في استطلاع وحدتي بين فترات متقاربة. 
في اسبوع واحد كتبتُ أربعين ألف كلمة، من حيث لا أدري تدفقت المفردات كسيل عارم على صفحات "الوورد" أمامي، جارفاً في الوصف المتألق، كل الضحل الطافح على مخيلتي، وأيضا الأكثر ضحالة في خفاء لا شعوري. شخصيات روايتي ناس واقعيون بالمطلق، عشتُ معهم في كل مكان، سافلين، مبتذلين، منحطين، القليل منهم طيبين. عملتُ على عكس ما يعمله الكتّاب الكبار، لم أقتفي فرص احتدام المواقف في الأحداث، لأطلق موعظة أخلاقية، تكشف نبالة غايتي من الكتابة الأدبية، تركتُ شخصياتي تقول ما تشاء، كأنهم على مركب بلا مقود ولا مجاديف، في وسط البحر.
 أغلقتُ صفحة " الوورد " بعد حفظها في ملفّ سرّي للغاية، ثم رحلتُ في نوم عميق لأستقيظ بعد يومين، معوّضاً ما فاتني من نوم كافٍ خلال اسبوعي الإبداعي بإمتياز. تجسست أحوال جسدي، وجدته مرتاحاً، صاحياً، نشطاً، مخيلتي خالية بالمطلق، لا فصاحة لصور ولا ضباب يحجب عني المشهد. تأملتُ طويلاً بياض الثلج عبر النافذة، كان بياضاً فحسب، لا يحيلني لأي معنى آخر، حتى برودة الثلج من خلف زجاج النافذة لم أشعر بها، كما كنت أشعر بها قبل كتابة الرواية!
قبل إعادتي معدات الكتابة لأصحابها، دعوت زوجتي للدخول لأخبرها بفرح طفولي أنني أنجزتُ رواية من 200 صفحة بمقاس A4. ابتسمت زوجتي بلامبالاة وقالت: كان عليك فتح نافذة الغرفة، رائحة عفن السجائر والقهوة لوّثت كل محتويات الغرفة؟  أغلقت الباب في وجهها، عدتُ لروايتي منكسر الخاطر من أول قارئ مفترض، سخر سلفاً مما أنجزته، حتى قبل قرائته.
في أول مراجعة لما كتبته خلال اسبوع حذفتُ عشرين ألف كلمة، سخرتُ من نفسي قائلاً: من أين أتتني كل هذه الثرثرة؟ رغم أنّ كل عابر بي يصفني بالرجل الصامت!
في المراجعة الثانية حذفتُ عشرة ألاف كلمة. لم أأسف على هدر تعب سبع أيام، تذكرتُ حكاية فيكتور هيغو بأنه أعاد كتابة الفصل الأول من روايته البؤساء مائة وأربع عشرة مرة حتى استقام به المعنى المراد. إذاً من أنا حتى أبخل بحذف كل ما لا معنى له ؟
في المراجعة الثالثة حذفتُ خمسة ألاف كلمة. امتلئت سلّة المهملات بالكلمات الشاعرية وأسماء شخصيات ثانوية، حتى أسماء نساء جميلات ومثيرات. شعرتُ أنني حين كتبت كل هذا الهراء كنت مسلوب الوعي لصالح اللاشعورالابداعي الذي تحدث عنه أصدقائي المبدعين!
 في المراجعة الرابعة حذفتُ كل شيء، أبقيتُ على العنوان فقط. تأملتُ العنوان ليوم كامل، عبثت بترتيب مفرداتها، تقديم، تأخير، وهكذا حتى  بزوغ الفجر، قررتُ إنهاء المهزلة.
 نشرتُ العنوان على صفحتي الفيس بوك “ كائن لا يحتمل صمته، لا في احتشاد الكائنات حوله ولا في عزلته”
بعد دقائق من استقطاب المنشور بضع لايكات من المعجبين العميان كتب أحدهم لي  تعليقاً :
- منشورك مقتبس..لا بل مسروق بطريقة مشوّهة

                                                                    



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق