السبت، 31 مارس 2018

مخلب الصدفة
















محمد جيجاك



مضت ثلاثة أشهر على تدمير مصنعي للألبسة، قذيفة طائشة انطلقت من غرب المدينة لشرقها سقطت في منتصف الطريق على سقف مصنعي في وسط حيّ الأشرفية، وبهذا الحدث الصدفوي، انتسبت لجيش العاطلين عن العمل، الذين يزدادون كل يوم بإطراد مع عدد القذائف الطائشة التي تهطل على المدينة، عن طريق الخطأ والصح.
 بعد مرور شهر شرعت زوجتي تتذمر من عطالتي، رغم أنني حملت عنها عبء أداء معظم الأعمال المنزلية، إلّا أن زوجتي من صنف النساء المتحررات ظاهرياً، اللواتي يفضّلن الرجل القاهر للظروف، والذي يأتي بنتيجة حسب أهوائهن، تطالبني بأن أفعل شيء، أي شيء، لا يهم، المهم أن أتدارك نفاذ المدّخر من المال وأن لا أبقى أسير البيت كبغل معاق، ولأنها تعرف جيداً لا فرصة لي بإيجاد عمل والحرب في أوجها، اقترحت أن أعمل في الثورة مثل أصدقائي. قلت:
- في الثورة لا يوجد المال، وثانياً، لا مكان لشخص ملحدٍ مثلي في هذه الثورة.
 قالت توضّح ما تخمّنه أنني لا أعرفه:
-  المال يوجد في كل مكان، فقط روّض عنادك وتعايش مع الأشياء التي تكرهها
- لن أخدع قناعاتي لأجل المال؟
- الأولوية أن تحصل على المال كيفما اتفق لتعيش بكرامة، لا أن تفكر بكرامة وتعيش بذل متسول.
- حين ينفق المال لدينا سأفكر ماذا سأفعل
- الكسالى والبليدون هكذا يفكرون
- حسناً ..كما تشائين
رويداً رويداً مع تكرار موشحات زوجتي حول أصول العيش بكرامة ولو على حساب الكرامة، أصبحت عاطلاً عن الحياة، اتسعت فجوة الخلاف بيننا من جهة وبيني وبين العالم أجمع من جهة أخرى.
 الوقت كلبٌ؛ يعضّ من ليس لديه ما يفعله، أربعة وعشرين ساعة زمن يتكرر للأبد، أحوم حول نفسي مثل طاحونة فارغة، أو، كدجاجة بحَملٍ كاذب، لا تعرف أين تضع بيضها.
 ريح باردة تنفخ في ثقوب النافذة، تُحدث صفيراً حاداً، أُصغِ له ببلادة غراب اعتاد نشاز الطبيعة، انقطعت الكهرباء بعد حلولها كضيف مرح لمدة ساعة وغادرت دون أذن، لأجل غير مسمى.
 حلّ الظلام وضاق بي المكان من جديد، قرأتُ آخر عبارة من رواية "أشياء تتداعى" على ضوء نار قداحة من صفحة 154 " ليس هناك من قصة غير حقيقية، العالم لا نهاية له" طويتُ الكتاب واستسلمت لدفء مضطجعي على الأريكة، سلبتني الغفوة كلصّة اعتادت تواطئي معها، أرخيتُ حبال حواسي ونمتُ بسرعة الكوالا، دقائق قليلة ووقعتُ فريسة حلم مرعب، رأيتني في صالة اوبرا فخمة، أحاول جاهداً أن أفهم حكاية الرقصة وأفشل، فجأة أهربُ في الظلام من شيء لا أعرفه، ألهث ككلب يجرّ مزلاج ثلجي ثقيل، وإذ بي على بعد خطوة واحدة من حافة صخرية مقطوعة شاقولياً على سفح جبل "قره بيله*"، خطوة أخرى ويكون السقوط المدويّ من علو عشرين متراً تقريباً، إن لم يحالفني الحظ ويرتكز جسدي على جذع  شجيرة بلوط؛ سأتشقلب على المنحدر الطويل هبوطاً حتى يتناثر أشلائي في الطريق لمستقر نهر الأسود، التفتُ خلفي حيث طريق العودة الذي أتيت منه، رأيت ثلاث ذئاب تلمع عيونهم في العتمة، يلهثون على بعد قفزة واحدة بمقياس تضوّر جوعهم، فتحت عيني لإنعدام حلّ للهرب، ولأتأكد من وجود الذئاب بالفعل، رأيتُ زوجتي تحمل شمعة ثخينة وتتنقل من غرفة لأخرى.
تعلّمت من "غوستاف يونغ*" عادة تفسير أحلامي بطريقة علمية، وبدون ثرثرة بوحها لأحد، بناءً على نظريته "الحلم هو اللغة الخافية للإنسان" أي أن الحلم محاكاة عميقة لأحداث جرت مع الإنسان في حياته اليقظة، مفردات الحلم هي ملاحظات دوّنتها الحواس والعقل والتخيّل، يتم معالجتها وجدانياً في مختبر متحرر عن أية رقابة شعورية، والذكي يتعرّف على نفسه من خلال أحلامه. كان حلمي يشير لي بأنني شخص لا أحبّ المواجهة والمقاومة، إنما لدي طرق أخرى للحلّ.
تنفست الصعداء بعد الإطمئنان على نجاتي من أنياب الذئاب، ورحتُ أتابع بنظرات متسائلة شغب زوجتي.
 كانت توضّب أغراضها الخاصة جداً في حقيبة سفر كبيرة، قبل أن تغلق سحّاب الحقيبة الممتلئة بالألبسة، رفعت الشمعة صوب اللوحة التشكيلية الوحيدة المعلّقة على جدار بيتنا، أهدانا إياها فنان حلبي مشهور بطريقة ملفتة للنظر أمام زوّار معرضه في صالة الخانجي، الفنان معارض راديكالي للنظام الحاكم في البلاد، وهذا كان دافع زيارتي لمعرضه، إلّا أنني انتكست حين قرأت على بروشور معرضه " تحت رعاية رئيس الجمهورية يقيم الفنان ... معرضه!". تسائلت في نفسي مستغرباً، "كيف لفنان قضى سنوات في المعتقل لمعارضته رأس النظام ويفتتح معرضه تحت رعايته؟".
لم أبحث عن جواب لسؤالي، لأنني أعرف مسبقاً الثقافة التي تربينا عليها وعلمتنا مهارة تبرير الشيء ونقيضه في آن واحد.
 في الحقيقة اللوحة الهدية، كانت بمثابة مغازلة فجّة لزوجتي التي أغرقته بأسئلتها الغبية، زوجتي تحاول جاهدة إظهار إهتمامها بالفن والفنانين؛ والفنان يجيبها كمراهق حظي بإمرأة جميلة تلاحقه كفراشة، الفنان العجوز ذو الشارب المعقوف للأعلى كذيل فأر مذعور اكتشف بسهولة غباء زوجتي في الفن، إنما طاب له ثرثرتها الأنثوية، أوجد الفنان المتصابي بسرعة وذكاء حلاً لتوطيد علاقته مع هذه المرأة الجميلة والغبية "ربمّا هذه الصبية الشقراء تنفع لأشياء أخرى في الحياة" استطعت أن أقرأ هذه العبارة في عينا الفنان الزائغتين، الغائرتين، ركض إلى المكتب كطفل، جلب ورقة صغيرة وقلماً، كتب عليها "مباعة" بخط مقروء غير فني، علقّها على زاوية اللوحة السفلية. وقال لنا بتهذّب مصطنع "هذه اللوحة باتت من مقتنياتكما، يشرّفني التعرف بكما كصديقين نادرين". نظرت زوجتي في عيوني مباشرة تستشف رد فعلي بينما قرأتُ في عيناها فرح طفلة بليدة، ابتسمت بسخرية وشكرت الفنان بنبرة رسمية.
 كنت أراقب تطور الحالة العاطفية للفنان بصمت، أضيف لذاكرتي ملاحظات عن سفالة الإنسان حين تستحوذ عليه الغريزة، ويتحول لحيوان حقيقي، أعلم أن الغريزة تسحق المعرفة في اللحظة الحاسمة، تجعل الإنسان ينحدر من سموه المعرفي العالي لكلب يلهث وراء شهوته. بالمقابل حبّ الظهور لدى زوجتي تدفعها لارتكاب حماقات لا ترتق مع الزمن، دائماً تكون بسبب جمالها وغبائها فريسة نوايا جنسية لمشاهير ووجهاء المجتمع سَفلة، ولا تتعظ.
 انزلت اللوحة عن الجدار برفق، لفّتها بقميص نومها وحشرتها عنوة في الحقيبة، راحت لتجلس أمام دولاب المكياج قرابة الساعة، تحت ضوء ثلاث شمعات أنهت تنضيد وجهها بمساحيق غالية الثمن، قصّت رزمة صغيرة من ذيل شعرها الأشقر، وضعتها أمام المرآة، دقّ قلبي لخطب ما حدث، أيقنت أنها قررت هجراني وتنطلق لحياة جديدة. تأنقت بلباس رسمي فوقه مانطو من جوخ إيطالي أسود، خيّل لي أنها ذاهبة إلى مؤتمر اقتصادي لتجار الدرجة الأولى، أخرجت الحقيبة الثقيلة بعناء من الباب، التفتت إليّ لتقول مستدركة، كنتُ مازلت مضطجعاً على الأريكة أدخّن وأعبث بصمتي، قالت بنبرة مهذّبة:
- أنا مسافرة إلى .
 أطبقت الباب ورائها بهدوء وغادرت، مصدرة صوت فرقعات كعب حذائها الخشبي على بلاط الدرجأ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق