الخميس، 29 يونيو 2017

مقامر من الطراز السيء






محمد جيجاك
كنا حين ينفد صبرنا حتى ينقطع التيار الكهربائي لنتوقف عن العمل ونهرع مسرعين لمقهى “جميل هورو” القريب. كنا أربع مراهقين شغيلة ورشة الخياطة في حي الشيخ مقصود الغربي. نمكثُ في المقهى لساعات حتى يصحى ضمير موظف شركة الكهرباء ويقوم بإعادة توصيل التيار لنعود للعمل منهكين من اللعب وشرب الشاي الزنخ وتدخين عشرات السجائر. زميلنا خمشان صاحب أقذر لسان بيننا، كان يشتم أم موظف شركة الكهرباء في لحظة قطعه لتيار الكهرباء ولحظة وصله، أمّا أنا الذي كنت الوحيد بينهم أعرف القراءة والكتابة كنت أشتم الحكومة بدون ذكر اسم رئيس البلاد.
في أول يوم قطع فيه التيار الكهربائي ودخلنا المقهى لعبنا لعبة “التريكس” كتسلية لقضاء الوقت، لكن لعبة التريكس لا تستغرق أكثر من ساعة أما انقطاع الكهرباء يطول لساعات مما أجبرنا على تكرار اللعبة أكثر من مرّة فمللنا منها. في اليوم الثاني لعبنا لعبة “الكونكان” وجدناها تفتقر للمتعة وأنها لعبة حظ ولا يلزمها الكثير من الذكاء ومهارات المناورة. في اليوم الثالث لعبنا لعبة “البلوت” اللعبة التقليدية لعجزة الكرد، لم أكن أعرف قوانينها، تعلمتها على عجل، فتركناها بسبب أدائي السيء. في اليوم الرابع اقترح زميلنا خشمان أن نلعب لعبة “الفتوح بالعشرة” السريعة والخفيفة، وأضاف لاقتراحه شرطاً آخر ليضفي الحماس على اللعب، بأن الاثنان الخاسران سيدفعان ثمن القهوة عن الاثنين الرابحين أيضاً.اتفقنا وتحوّل لعبنا من اللهو المستهتر للمنافسة الجادة، فلم نعد نهتم بأمر الكهرباء إن طال انقطاعها أو قصر.
مضى شهر على الحكاية المأساوية للكهرباء، خلالها أصبحنا رواداً مياومين في المقهى، نلعب القمار وننتظر الحكومة حتى تعالج العطب في محطة توليد الكهرباء. كانت الحكومة تتحجج بشحّ ماء نهر الفرات في الصيف الحار، وتركيا تقول من حقها بناء سدّ أتاتورك العظيم والإستفادة من ماء نهرها والفائض عن حاجتها ستتركه لجيرانها، أما إذاعة الهيئة البريطانية من لندن التي كنت مولعاً بسماعها، لأنها أكثر إذاعة تأتي على سيرة الكرد في تركيا وايران والعراق، كان لها رأي آخر حيث كررت لأكثر من مرة أنّ تركيا بَنت سدّ أتاتورك لتحجز ماء نهر الفرات عن جارتها سوريا وأنها لن تطلق سراح الماء حتى تتوقف السلطة السورية عن دعمها للآبوجيين. بينما كانت الحكومتان تتبادلان الاتهامات وحبك المؤامرات ضد بعضهما كنا نرتقي بلعبنا لورق الشدّة صوب الاحتراف أكثر. كنت الوحيد من بين زملائي الثلاث أتابع أخبار سورية عبر محطات إذاعية خارجية، فكلما نقل الأخبار عن الآبوجيين أنهم نفّذوا عملية عسكرية ضد الجيش التركي قلت لزملائي اليوم ستنقطع الكهرباء ساعات إضافية أخرى.
عقب كل عملية عسكرية للآبوجيين صعّد كنعان ايفرين لهجة تهديده لسوريا، بينما حافظ الأسد ينكر بلغة باردة دعمه للآبوجيين، في المسافة الزمنية بين زعيق ايفرين ونعيق الأسد صرنا زبائن رسميين لمقهى القمار الصغير القذر.
تطور لعبنا من التسلية لدفع ثمن القهوة ثم لدفع ثمن الغداء “سندويشة فلافل على الأقل” ثم ارتقينا لذروة المنافسة حيث يراهن كل منا على النقود التي في حوزته والرابح يحتفظ بالنقود ويرحل لحال سبيله.
في التجربة الأولى للعب القمار وفق الأصول السرّية المتبعة في المقهى خسر زميلنا مستو خمسين ليرة، أنا لم أخسر ولم أربح شيئاً، ريزان خسر عشر ليرات، الرابح الوحيد كان خشمان، صاحب الاقتراح الذي لا يحمد عليه بتحويل التسلية لفعل منافسة جادة. حاول مستو أن يستدين من أحد ليكمل اللعب فلم يجد من يديّنه، شحب لون وجهه، صارت سحنته غامقة كبقعة القهوة الجافة على الشرشف البني الممدود على الطاولة الحديدية، ترقرق الدمع في عينيه، تأملت يديه ترتجفان من القهر، بدا قلبي ينقبض تعاطفاً مع مأساته، لكنني تماسكت ولم أديّنه المائة ليرة التي أخفيتها في الجراب داخل حذائي، كي لا يسهل عليّ إخراجها في لحظة انفعال. وكنت قد حلفت اليمين قبل الشروع باللعب بأنني لا أملك سوى عشرون ليرة. خشمان هو الذي ربح كل نقود مستو وريزان، وأخذ يضحك كالقحبة بملء شدقيه، ساخراً من الخاسرين. كان من الطبيعي أن يربح خشمان، لقد ورث من أباه مهارة اللعب بالقمار وأيضاً أخلاقه الوضيعة. شككنا بأن خشمان كان يغشّنا أثناء اللعب لكننا لم نتمكن من القبض عليه متلبّساً، وشكنا مرده أنّ أباه طُعن بسكين حتى الموت في المقهى بسبب غشّ مارسه أثناء اللعب. حلف خشمان أن أباه لم يغش إنما ربح مالاً كثيراً في ليلة رأس السنة، فراح يضحك فرحاً لحسن طالعه في العام الجديد لكن الخاسرون قتلوه غيظاً، أما جميل هورو صاحب المقهى “المطرب الزجلي المعروف في عموم كردستان” قال كشاهد عيان على حادثة قتل أبي خشمان ( أنه أكل ورقة ختيار الكبّة خفيةً أثناء اللعب على أنها فتات خبز منسي في جيبه ليتخلص من ورقة زائدة تعيقه على فرش الورق من يديه، حين انتهى من بلع فتات ختيار الكبّة فرش يده معلناً فوزه بتلة النقود الورقية على الطاولة.
لم يكن مشهدا مستو البائس وخشمان المتعجرف ليدفعانني للتريث والحذر في اللعب بأخلاق مقامر جبان، إنما اخترت مسبقاً أن أكون مقامراً من الطراز السيء، ذلك الطراز الذي يراهن بجزء يسير من نقوده، إن خسر ترك اللعب، وإن ربح مبلغاً بسيطاً أيضاً ترك اللعب بذريعة ما. ذات مرّة قال لي عجوز مقامر كان يراقبنا من الطاولة المجاورة: أنت لست بمقامر محترم. قلت وكيف يكون المقامر المحترم؟ أجاب : المقامر المحترم لا يخفي نقوده كي لا يراهن عليها إن خسر. مجّ سيجارة الغازي بين اصبعيه النحيلتين بعمق، نفث الدخان في الفراغ وأضاف: لو كنت مكان زملائك لطردتك من المقهى نهائياً. ملاحظة العجوز أحيا شعور الغيظ لدى زملائي، حيث كانوا يضيقون بقناعتي التي لا تليق بقمرجي غرّ، لكنهم لم يتمكنوا من إيجاد تعبير مناسب لتوبيخي، كانوا مفرطين في حماسهم التنافسي. أما أنا كنت أضحك طوال الوقت لا مبالياً، بين الفينة والأخرى أشتم كنعان ايفرين وحافظ الأسد اللذين ورطانا بهواية قذرة لا نهاية لها.
كان مستو يخسر غالباً، لسبب نقاء نيّته وقلّة خبرته في احتساب الورق، فيستدين من خشمان النقود التي ربح نقوده ليتابع اللعب من جديد على أمل استرجاع ما خسره. بعد بضعة أيام رزح مستو تحت رقم كبير من دين مستحق لخشمان. توجست بأنّ تسليتنا تسير نحو عاقبة وخيمة، طلبت التوقف عن اللعب نهائياً، وارجاع كل النقود للخاسرين، ونعود للعبة التريكس حتى يحل الاشكال بين ايفرين والأسد ويرتفع منسوب ماء نهر الفرات ويعود التيار الكهربائي لمجراه الطبيعي. كنت قد ربحت خلال شهر ما يقارب المائتي ليرة أعدتها لريزان الذي لم يكن مبالياً بالخسارة أو الربح لكنه وافق على التوقف عن هذه المهزلة، وطلبتُ من خمشان أيضاً أن يعيد لمستو ما خسره، رفض خشمان الفكرة كما توقعت. اقترحنا أنا وريزان أن يعفيه من الديون المتراكمة عليه في أضعف الإيمان، فهو زميل لنا ولا يعقل أن يدفع راتب ستة أشهر من أجل مزحة. ابتسم خشمان وقال بخبث:
- سأعفيه من الديون بشرط.
- وما هو؟ سألته
- أن يتنازل لي عن عشيقته زينب.


حدّقت في عينيه للحظات، استشفيت من انكسار نظراته أنه نذل وما طلبه لم يكن مزحة سمجة. استدرت عنه وبصقت في فراغ العتمة التي تسود الورشة حين تنقطع الكهرباء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق