الثلاثاء، 23 مايو 2017

الفيس بوك منصّةً الذات الزيّفة

محمد جيجاك: كاتب سوري


بحسب ريجيس دوبريه، آخر ابتكار لآلية التفاهم والتواصل بين البشر هي الصورة. الصورة، شكل زائد حركة يساوي فكرة”. الصورة نصّ منجز المعنى” رولان بارت، لقراءتها شروط خاصة بها. فالعين تقرأ صمتاً، ثم تحيل مفردات الصورة للعقل، يفككها، يركّبها، يؤولها حسب سياقها، ليقبض على الرسالة الخفية. فقراءة الصورة الإعلامية لا تحتاج لخبرة معرفية عميقة، على نقيض النصّ الشفاهي أو المحرر. ردّ فعل الجاهل والمتعلّم على الصورة متقارب جداً،  سلباً أو إيجاباً، إلّا إذا كان المتعلّم لديه خبرة كافية في اكتشاف ضعف تقنية تزيف الصورة.
دأبت الشركات المصنّعة للتكنولوجيا على تطوير منتجاتها لتناسب حاجات المؤسسات الإعلامية ذات البعد العالمي، سياسة/ ثقافة/ تجارة. كي تتمكّن هذه المؤسسات من نسخ صور عن الواقع بحرفية عالية، تخدع الجمهور لحدّ لا يستطيع إنكار واقعية الصورة. انتبه الفليسوف الفرنسي جان بودريار لهذا السلوك المضلل الواسع النطاق، فأطلق صرخته: “موت الواقع”، ليحلّ محله واقع مزيف، ويكون المزيف طاغياً وفاعلاً.
شبكات التواصل الاجتماعي مادة للسوق، تبيع نفسها وتتيح للزبائن بيع منتجاتهم “المادية والمعنوية” عبرها. منصّات رقمية، في الظاهر مجانية، متاحة لكل فرد في العالم، متخطّية حدود الجغرافيا بين الدول، حدود اختلاف اللغة، حدود الثقافات المتباينة. إذا كانت هيئة الأمم المتحدة مقرٌّ لحكومات دول العالم، فمنصات التواصل الاجتماعي مقرات الشعوب. وعليه، سنة 2010 اختارت مجلة “Time” الأمريكية الشابّ مارك زوكربيرغ ” شخصية العام” مبررة اختيارها بأنه “ساهم من خلال ابتكاره لموقع الفيس بوك في تغيير حياة مئات الملايين من البشر”.
مناسبة هذا الكلام، أن صديقي السويسري لمح صدفةً أن رقم أصدقاء صفحتي “520” صديقاً، فأطلق صيحة دهشة وكأنّه اكتشف سرّ في حياتي: “WOW.. أنت شخصية عامة!”. ابتسمت مستغرباً من دهشته، وأجبته: “طبقاً لمعيارك، السوريون كلهم شخصيات عامة”. بتعبيرٍ آخر، كل من لديه صفحة الـ”فيس بوك” ولديه أصدقاء لا يعرفهم في الواقع هو شخصية عامة، بشكل ما. إذاً، خارج الـ”فيس بوك” أنا شخصية مغمورة، لا حضور لي، مع الـ”فيس بوك” صار لاسمي حضور في الأصقاع البعيدة قبل القريبة.
ولكن هل حقّاً هذا التقييم واقعي وموضوعي؟ وهل فعلاً تحولتُ لشخصية عامة، ويترتّب عليّ صياغة خطاب “فيس بوكي” يناسب مكانتي الاجتماعية الجديدة هذه؟ أم أبقى مستمراً على ما أنا عليه في الواقع ولا أخدع نفسي قبل الآخر؟.
تشير الدراسات الاجتماعية والنفسية حول “الفيس بوك”، أنه وسيلة تتيح التركيز على الذات، فيما يظهر على أنه يركّز على علاقتنا مع الآخرين، إنه مرآة تتنكر على أنها نافذة. ولنأخذ مثالاً عشوائياً من بين ألاف المنشورات “الفيس بوكية”: حصل مثقف كردي على موافقة طلب لم شمله فمنحته السفارة السويسرية ورقة عبور لمرة واحدة ” Lasepase” باعتبار جواز سفره كان منتهي الصلاحية، بعد أن حصل بتعثر على الإقامة الدائمة، واطمأن باله، كتب على صفحته: “أرسلت لي الحكومة السويسرية جواز سفر خاص لآتي إلى سويسرا وتضمن سلامة حياتي”.
هذا المثقف استثمر بدهاء إمكانية الخدع الذي يوفّره موقع التواصل الاجتماعي “الفيس بوك”، فزّيف واقع الحدث بحرفيّة، كي يقنع قارئه على أنه شخصية عامة، لها ثقل وازن وأهميّة وحضور، ليس فقط لدى أصدقائه الافتراضيين، بل لدى حكومات الدول أيضاً. هذه الخدعة أو الخديعة، يتيحه الفيس بوك بتوفر العناصر العالية:
1- الغالبية العظمى من أصدقائه الافتراضيين غير مطلعين على مجريات الحدث في الواقع. وبالتالي تنعدم فرصة المواجهة والتفنيد، لصالح تصديق ما يدعيه صاحب المنشور.
2- استغلال طيبة المقربين الذين يعرفون الحقيقة، لكنهم سيلتزمون الصمت أمام العامّة. أمّا تكذيبه في الواقع، فلا يؤثّر على تحقيق غاياته الدفينة من المنشور.
3- استعراض الذات بإرتداء مفردات فضفاضة ذات وقع لافت؛ “جواز سفر خاص/سويسرا/ تأمين حياة آمنة…”، والعبارة الأخيرة تحيل القارئ لتقدير أهميته الثقافية والفكرية. وهي الرسالة الأكثر أهميّة التي أراد إيصالها للقارئ.
4- إمكانية تلاعبه بالألفاظ، أثناء مواجهته بحقائق منطقية، كطرح سؤال مفاجئ : لماذا لم تحصل على الإقامة إلّا بعد عامين ونصف طالما الحكومة اعترفت بأهميتك قبل أن تطأ أرضها؟!.
5- أثناء احتدام المواجهة بالحقائق، سيحذف المنشور ببساطة، ويتنكر لفعلته.
بالطبع ثمة دوافع نفسية عميقة خلف انتهاج هذا المثقف سلوك الادعاء لما ليس هو عليه في الواقع، شأنه شأن أي مثقف سوري آخر، نشأ مشوه النفس والذات، في مرحلة تاريخية انعدمت فيها الحرية، لم يُتح له فرصة ارتقاء منبر إعلامي عام ليستعرض ذاته كما يشاء، لا سيما بالنسبة لمثقف كردي الانتماء، حيث صوته كان تحت مراقبة حثيثة من قبل السلطات الثقافية في الشرق الأوسط، الذي يعيش فيه.
وصفتُ هذا المزيّف، بالمثقف، ضمن التعريف الواسع للمثقف القائل؛ “كل من أنتج مادة ثقافية، بغض النظر عن جودتها، وعرض مادته أمام العامة”. وليس المثقف بتعريفه الأكاديمي، المثقف الذي ينتج فكراً بمفاهيم مبتكرة، خاصة به، المثقف المنهمك في البحث عن الحقيقة. أما هذا المثقف، صاحب المثال المذكور أعلاه، أمثاله كثر، ممن الذين اقتنصوا ميزات الـ”فيس بوك” لاستعراض ذاته المتضخمة افتراضياً، لتعويض هشاشتها الواقعية، كما أوضح الباحث والاكاديمي الفرنسي “باسكال بونيفاس” مهام هذا الصنف من المثقفين بدقة: “هو الذي يدافع عن قضية عامة لا ليخدمها بل يستخدمها لتحسين شهرته وحيزه الشخصي في المشهد الثقافي والفكري”.
والسؤال: ماذا غيّر الفيس بوك في المثقف الكردي والكردي عموماً؟. الكردي مثله مثل أبناء أي مكوّن سوري آخر؛ الكل حرم من العيش بكرامة الإنسان الحر، والاعتزاز بالنفس، لم يتح له أن يبلور شخصيته الحرة الخاصة كما يشاء. إلّا أن الكردي كان له حصص إضافية من الحرمان؛ حرم من الكتابة بلغته الأم، ومن التعبير عن خصوصيته القومية حتى باللغة العربية، ما جعل منه إنسان مكتئب، فاقد الشعور بوجوده ككائن يحظى بعمق معنوي، الثقافة والأدب والفنون حاجة بشرية كالماء والغذاء والجنس. عموماً، طغى على الكردي شعور اليأس السطحي، ذي طباع فصامي، يعتقد أن حياته هباء، بلا معنى، وفي آنه يتمسك بالحياة كطفل رضيع، يبكي إن غابت أمه. نبت المثقف الكردي في أرض مضطربة، ونما على تغذية ذهنه بمشوهات فكرية وثقافية. يقفز من محاكاة آخر ما أنتجه الفكر والحضارة الإنسانية ليعود إلى الواقع ويعيش كما لو أنه لم يغادر أساطير الأزمنة الغابرة من تاريخ قومه. انقسم المثقف الكردي على نفسه في تحديد وجوده السياسي؛ هل هو سوري أم كردستاني؟. صَعُبَ عليه إيجاد صيغة ناجعة تنتشله من التيه بين الهويتين. اهتمامه بالثقافة والأدب لم تسعفه، لأنه لم يقوَ على تخطّي أسئلة محليّة ضيّقة، لينشغل بأسئلة عامة كبرى؛ أسئلة تطال الحقائق الكبرى حول الإنسان. فبدا تعاطيه مع الثقافة طارئاً، مشروط بحال قومه. وسلّم زمام أمره للسياسي، وانساق مع الخطاب السياسي على حساب إنتاج الفكر والثقافة، فطاب له أن ينخرط في التنظيم الفكري للأحقاد السياسية، حسب تعبير جوليان بندا.
عرىّ الـ”فيس بوك” السوية المعرفية للمثقف الكردي، ومقدار همّه الثقافي، فبان ضحل الروح، يرزح تحت سطوة إظهار ذاته بأبهى الصور، حتى لو كانت صورة مزيفة، طارئة. حين أتاح الـ”فيس بوك”  له الإفلات من رقابة السلطة، لكنه أبى أن يكتب بلغته الأم! متذرعاً، ليس هناك جمهور كافٍ يقرأ ما سيكتبه باللغة الكردية. إذاً، هاجسه الرئيس أن يَسمع صدى صوته من بعيد، وعلى الفور. ذروة ضياعه وتشوش ذهنه يتجلى حين يعرّف عن نفسه بعبارة مضحكة “كاتب كردي سوري يكتب بالعربية” هذا التعريف الغريب مازال يستخدمه على منصة الـ”فيس بوك”، في صفحته الشخصية!، العبارة توضّح تماماً أزمة الهوية لديه، من جانب، ومن جانب آخر أزمة إقناع الآخر بفرادته وتميّز ذاته.
لم أسمع فليسوفاً من الذين أحدثوا انعطافاً في الحضارة الإنسانية، عرّف عن نفسه “أنا فليسوف يهودي نمساوي أكتب بالألمانية”. بينما كان هرتزل اليهودي مشغولاً بالبحث عن أرض يجمع عليها اليهود من الشتات، كان فرويد اليهودي يحلل النفس البشرية، وكان إنشتاين اليهودي يقيس سرعة الزمن. وقبلهما أطلق كارل ماركس “يا عمال العالم اتحدوا”، كانوا هؤلاء وغيرهم يشتغلون للإنسان بعمومه، كإحدى مهام المثقف. أما المثقف الكردي فلم يستغل ظرفه البائس كظرف اليهود في القرن الثامن والتاسع عشر، ليستثمره في طروحات إنسانية عامة تفرض وجودها على الفعاليات الثقافية في عموم البلاد، بل عاش ومازال ملاصقاً لرجل السياسة، يلهث ورائه، يتوسل الاعتراف به كمثقف قومي، متخلياً عن مهامه في طرح أسئلة جوهرية تمس الثقافة الإنسانية في حدودها الدنيا.
قصارى القول: قسّم الـ”فيس بوك” المجتمع الكردي لشريحتين متلاصقتين، الأولى “العوام” ضعيفي القراءة، يسلب ألبابهم المفردات الفاقعة؛ كردستان/ الكردياتية/ بيشمركة/ كريلا/  وحدة الصف الكردي. مهمتها التصفيق، إطلاق عبارات الثناء والمجاملة للشريحة الثانية “المثقفين” التي تتميز عن الأولى بإجادة قواعد اللغة العربية لتكتب ما ترتضيه الشريحة الأولى، وتكريس ما هو مكرّس من خطاب شعبوي، مبني على العاطفة الفياضة، التي بها يعيد صياغة ذاته المحطّمة.

عن مركز الدراسات الكردية السويدية

مسقط رأسي


                          



    محمد جيجاك

بعد صفنة طويلة على مقعد متطرف عن رصيف البحيرة، الملاذ الوحيد للغرباء في مدينة لوتسيرن، صديقتي الكولومبية “ديانا” الهاربة من وطنها مثلي كسرت صمت المكان وسألتني بصوت هامس مُنهار :
- بماذا تفكر؟
-هذا الليلة سأكتب نصّاً مختلفاً في المحتوى والشكلّ.
-لا تغيّر كتاباتك عن المتشرد، في كل يوم لديه صدفة مثيرة
- أوكي..
-انتبه..الكاتب السيء هو الذي يكتب عن حالات لم يعشها
-ما الفرق، طالما هو مُقنع ؟
- الفرق، هو خبرة الحسّ الصادق بالشيء أوالإيحاء بالحسّ الصادق بغطاء لغة حاذقة أنيقة.
- كتبتُ عشرات النصوص عن اللجوء والتشرد منذ اجتيازي حدود بلدي لأسلك دروب التيه في جهات الأرض. قارئي لم يصرّح بعد بملله من قراءة نصوصي المجترّة المواضيع كمضغات البعير الكسول، إنما حدسي يخبرني بإنخفاض درجة حماسته في قراءة نصوصي الأخيرة، لا شكّ أنه محق، أعرف ذلك من نفسي، فأنا قارئ أولاً وأخيراً، أمّا تورطي بالكتابة كان محض صدفة ولدت في زمان ومكان مناسبين للثرثرة، صدق من قال: الغربة تربة خصبة لنمو الثرثرة الأدبية. عشرات الكتّاب اكتشفوا مواهبهم في الثرثرة الفنّية على أرصفة التشرد في بلاد بعيدة عن مساقط رؤوسهم. نعم أنا قارئ وسأبقى قارئ للأبد. أهوى قراءة الحكايات في وجوه الناس أكثر من قرأتها في الكتب، على سفح كل وجه مدوّن حكاية ما، منها حكايا مملة ومنها ما تزخر بالحيوية المتجددة في كل لحظة. لكل قارئ جيد باع واسع من النزق المشروع، يجب أن يمارس نزقه حين ينفرُ من قراءة حكاية مملّة، وإلّا فهو ليس بقارئ جيد، قد يكون ناقداً غرّاً، مرغماً على اتمام قراءة أي هراء ليكتب عنه مادته الأسبوعية في جريدة محلية محدودة القراء. أو قد يكون قارئاً من ذوي ربطات العنق الأنيقة، مصابٌ بداء استعراض أسماء الكتّاب والكتب أمام زملائه المثقفين من الدرجة الثالثة، في محصّلة استعراضه تكتشف أنه لم يقل جملة مفيدة من ابتكاره!
هذا المساء سأبتعد عن اجترار الذكريات لأؤلف من صورها الباهتة قصصاً وحكايا مستهلكة قبل قرائتها، سأكتبُ عن راهني، حتى المستقبل لن أكتب عنه، ما أدراني لما ستؤول لها الأمور غداً؟ سأفتح ذهني على مصراعيه وأكتب كمنتمٍ للعالم بأسره، سأمزّق عباءة انتمائي لبقعة جغرافية ثقافية ضيقة المساحة، تلك العباءة التي ضاقت بي  وجعلتني أمشي كبطريق مختال بخوائه. (ليذهب غاستون باشلار وأضرابه وتنظيراتهم عن جماليات المكان في الطفولة إلى الجحيم) أي هراء هذا؟ أهرب من مسقط رأسي بكامل ارادتي ثم أكتب مطولات عن الحنين والشوق إليه!
 طالما آمنت أنّ الإنسان “ مقذوفٌ في هذا العالم” فكل معلومة في ذاكرتي مصدرها العالم من أقصاه لأقصاه هي لبنة في جدار عالٍ، تسمى شخصيتي الراهنة.
تأكيداً على ما أدعيه بأنني أنتمي للعالم.. في صيف السادسة من عمري دخلتُ السينما لأول مرّة، شاهدتُ بدهشة فيلم رينغو للممثل الإيطالي جوليانوجيما، مضى أربعين سنة وما زلت أحفظ في ذاكرتي كل تفصيل في صور رينغو. في مراهقتي لم أفوّت مشاهدة فيلماً واحداً لبروسلي، ماشيستي، وهرقل، كنت معجباً بأساطير هؤلاء كما إعجابي بأساطير عنترة بن شدّاد، الزير سالم، وصلاح الدين الأيوبي. تابعتُ بذهول فالنتينا تريشكوفا تطير بمركبتها صوب السماء. حين مشاهدتي أفلام وثائقية عن قبائل الزولو  وآوا غواجا وحضارة الأزتيك سرحت بعشرات الأسئلة، مازال بعضها عالقة بذهني. قرأتُ بلهفة قصص غوغول، غوته، وميشيما، آلان بو، وماركيز بشغف قراءتي لعمر الخيّام،  المتنبي، أحمد خاني، ونجيب محفوظ. حين فشلت في ادراك الله في القرآن بحثتُ عنه في تعاليم  كونفوشيوس، زرادشت، المسيح، الديلاي لاما، غاندي، ومارتن لوثر. قضيتُ مئات الساعات - نصفها نوماً - أمام مسلسلات والت ديزني. حلمتُ عشرات المرات بمضاجعة ريتا هيوارث، راكيل والش، وفرح فاوست، تماماً مثل أحلامي عن النساء المثيرات في حارتنا الشعبية. معظم أحلام يقظتي قضيتها على شواطئ هاواي، جزر الأوز البرتغالية، وفي قصور اشبيليا. استمعتُ بكل أحاسيسي لفرقة البوني إم، ال آبا، ديميس روسس، وعارف صاغ، كما استمتاعي  بأم كلثوم، محمد عارف جزراوي، فريد الأطرش، مارسيل خليفة، وشفان. أشبعت بصري الصحراوي بألوان رامبرابت ومونيه وشاغال و...
أستطيع القول بجدارة وبلا تحسّب لغضب أبناء ملّتي أنني – وأنتِ أيضاً- ابناء العالم، شرقاً، غرباً، جنوباً، شمالاً.  بعبارة مكثّفة “ مسقط رأسنا هو العالم، كل مافي الأمر أنني من جبال عفرين وأنتِ من سهول لالاندا، ونحن الآن في لوتسيرن “.
تنحنحت ديانا من غفوتها، ربما سمعت اسم بلدتها في سياق استرسالي الطويل لتوضيح  سبب كتابتي نصّاً مختلفاً. ربتت على كتفي وقالت بنصف صحو :
- سأذهب للبيت أنا متعبة، غداً أنا سأشتري الماريوانا، لقائنا كالعادة في التوقيت ذاته، جاو جاو ..  



الرهان الأخير

ِ
                                      


     محمد جيجاك

أجمل بضع سنوات من حياتي تلك التي أصبتُ فيها بهوس المراهنات.الحياة إستحالت أمامي لأرقام فقط، كل مشهد غريب أصادفه أحوله لرقم، حفظت كل الأرقام في هاتفي النقّال، حفظت أرقام سيارات كثيرة، حفظت أعوام ميلاد أغلب الشخصيات الشهيرة في العالم، حفظت تواريخ الاستقلال لأغلب دول عالم الثالث، حفظت أسماء كل رؤوساء الولايات المتحدة و أعوام حكمهم. خلال بضع سنوات خضتُ منافسات قاتلة، مارست خدع لذيذة، وضحكت كثيراً، وفرحت بضآلة لكسبي المال، مرات قليلة حزنت لخسارة من بين خسارات لا تعد ولا تحصى.
 كان هاجسي هو البحث عن لذّة المصادفة وليس كسب المال. حين تختار رقماً من بين ألاف الأرقام ويصدف أن تتطابق مع رقم الرابح، يا لها من لذّة لا توصف !
في البداية كانت مراهناتي على مباريات كرة قدم، محلية دولية لا فرق، لم أهتم بمعرفة اسم الفريق ولا الإنتماء القومي للفريق، حفظتُ بعد تكرار أسماء فريق برشلونة وريال وفريق الجيش السوري الذي إن خسر نكّد الفرح على خصمه وحوّل ساحة الملعب لمعركة بين الجمهورين. غالباً كنت أخوض الرهان وأنا ثملٌ، في مطعم صدفة ظهرت مباراة على شاشة التلفاز فبرمنا الرهان مع ندمائي، لا أبالي بالمعلومات عن الفريقين، حتى أراهن على الأفضل، يكفي أن يعجبني لون بذلات الفريق لأراهن عليه “ أريد الفريق الأخضر المخطط بالأصفر ” ذات مرّة بسبب اعجابي بلون بلوزات الفريق راهنت عليه وهو خاسر 2-0، بالطبع خسرت الرهان، لكن الكل بما فيهم خصومي قالوا “ خسارتهم كانت ظلماً من الحكم الأمريكي”.
 لم أحتجّ يوماً على نتيجة مباراة كما يفعل الأغرار الجدد، لم ألعن حظي يوماً،  حتى أنني لم أندم لأنني لم آخذ بنصائح كرسون المطعم الخبير بقدرات كل فرق كرة القدم المحلية والعالمية،دائماً أشعر براحة ضمير لأنني لم أراهن إعتماداً على اقتراحات غيري، وأنّ ما أفعله هو استجابة صادقة لاحساسي الداخلي.
حين ارتقيت منصة الاحتراف بتّ أعتمد على أحلامي، استنبط منها أرقام المراهنة، يصدف أن أرى زعيماً في الحلم، مهما كان قدر الزعيم وعظمته وحجم شعبيته حولت اسمه لأرقام، مجرد أرقام، من الواحد حتى المائة، حسب ترتيب أبجد هوز، نادراً كنت أستعين بخبرات المراهنين الطليان الفطاحل في تفسير الأحلام وتحويلها لرقم. لم يصدف أنّي كسبتُ رهاناً من اسم زعيم، رأيت نيلسون مانديلا خسرت، رأيت البرزاني الأب والأبن خسرت، رأيت عبدالله اوجلان خسرت، رأيت لينين خسرت، رأيت ماوتسي تونغ خسرت، رأيت بن لادن خسرت، رأيت بيل كيلنتون خسرت... في الليلة التي أرى فيها زعيماً كان يركبني الشؤم طوال اليوم التالي، لكن لا بد لي من المراهنة على معطيات الزعيم الذي رأيته، هكذا كان العُرف والالتزام الذاتي بأصول المراهنة.
أغلب المراهنات التي كسبتها أدين بها لنساء رأيتهن في الحلم، نساء أعرفهن ولا أعرفهن، صديقات لا علم لهن بأحلامي عنهن، جارات دائمات الشكوى عن تعاسة أزواجهن، ممثلات جميلات، راقصات مثيرات، شاعرات في أول صعودهن على المنابر، مثقفات لم يغفلن عن التبرج في الأماكن العامة. ذات حلم غريب رأيت نوال السعداوي في قاعة المحاضرات، كنت الطالب الوحيد في القاعة، شَرحت لي مطولاً مصطلح عقدة الخصاء، فجأة كشفت عن عريّها وذهبت إلى المطبخ لتصنع القهوة، شعرت بحرارة الدم يسري في أنحاء جسدي، حين عادت مع القهوة أطفأت النور، لا أعرف لماذا؟ وبعد خوضي مغامرة لذيذة معها أشعلت النور لأرى ما حدث، وإذا المرأة التي مارسنا سويا المغامرة كانت ريتا هيوارث !  
مع اندلاع الثورة في بلدي توقفت عن المراهنات بالمال، دخلت سلك السياسة كخبير عتيق، وراهنت زملائي على أن الثورة ستنجح. زملائي المحترفون بالمراهنات نصحوني بالإبتعاد عن هذه المغامرة، قائلين : إن راهنت على أقوال الساسة ستخسر حتى كيلوتك أو ربما حياتك. لم أبالي بنصائحهم، استجبت لحدسي واحساسي الداخلي، وأشياء غامضة كانت مركونة في قاع وجداني.
راهنت  بدايةً على الثوار المتظاهرين ضد النظام، بعد أشهر راهنت على العلمانيين ضد الاسلاميين والنظام، بعد أشهر راهنت على من يكتفي بسجن خصومه ضد الذين يقطعون الرؤوس ويفسخون الأجساد في أقبية أمن النظام، بعد أشهر راهنت بأن أنفد بروحي من هذه الدوامة ضد الرصاص الذي يهطل من كل صوب على بيتي. 
بين صمت وصمت كنت أطلّ برأسي من نافذة غرفتي في الطابق الخامس المطلّ على الشارع الرئيس في الأشرفية، أقرأ ببطء وتلعثم الإعلان المدوّن على سفح السماء الزرقاء “ البضاعة التي نشتريها لا ترد لأصحابها حين الندم”. أغلقت النافذة، استلقيت حيث اتفق في عتمة غرفتي، رحت أصغي بنقاء لهدير طائرة حربية تقترب وتدبر بصحبة رشقات رصاص في المحيط القريب تأتيني كنعيق سرب غربان مذعورة. رويداً رويداً قادني العتم المقيّد بجدران محكمة إلى الاحساس باللاشيء. تماهت ذاكرتي مع العتمة العميقة. فجأة وثبتُ من قاع سحيق في العدم، قرّرت بلا تمحيص في عواقب قراري، أن أبيع وطني وبثمنه أشتري فيزا لأي رقعة لها سماء مفتوحة، تلك الصورة الشعرية الوحيدة كان تأسر مخيلتي حين اتخاذ القرار.
 لم أجد من يدفع لي ثمن تنازلي عن حصتي من المساهمة في تدمير الوطن، كل التجّار كانوا منشغلين بشراء الرصاص وخرائط حربية وربطات عنق تناسب منابر فاخرة في صالات محتشدة بالإضاءة والضوضاء.
قايضت وطني بالهواء الذي سأستنشقه بعيداً عن رائحة البارود، هكذا ساومت نفسي وعزمت على الرحيل خال اليدين والذاكرة، بلا زوادة تقيني العوز في الطرقات المتطرفة الوعرة، بلا ألبوم صور لأقربائي الحميميين لأصدقائي المراهنيين، لجيراني النزقيين للمدينة التي ولدت فيها وكبرت فيها وبكيت وفرحت فيها، نزحَت عارياً ككلب ممزق الخشم فاقداً احساسه بالجهات.
 


العدّ حتى العشرة


                     


محمد جيجاك

 لم تغفل أمي ولا مرّة عن تحذيري وتنبيهي قبل خروجي للعب في الشارع " لا تتعارك مع أحد، تعلّم العدّ للعشرة قبل الرد على أي اعتداء عليك، قد يكون تطاوله عليك مزاحاً، تذكّر أننا فقراء ولا نعرف أحد في هذه المدينة الكبيرة" أمّا أبي لم يكن يحذّرني بدايةً إنما كان يضربني بعنف مباشرة بسبب أي شكوى من طفل ضربته رداّ على ضربه لي، أو أعدت له الشتيمة التي قذفها في وجهي، أو لأي سبب آخر. يصفعني أبي ويذكّرني بعبارة أمي "عليك أن تعدّ للعشرة قبل الردّ على أحد". علّمتني أمي العدّ على أصابعي للعشرة حتى أتخطى الاعتداءات عليّ بسلام.
في مدينة حلب الكبيرة تعرّضتُ للكثير من الاعتداءات العابرة، كان يفترض بي أن أرد بما هو مناسب، كنتُ أنسحبُ لداخلي وأعدّ للعشرة ولا أفعل شيء. هكذا.. مرّنتُ نفسي على العدّ شفهياً في سرّي كي لا أحسّس الذي يغيظني أنني تخطيتُ العدّ لبعد العشرة ولم أفعل ما يجب فعله. مع الأيام صرتُ أعدّ للمائة.. للألف..للمليون..حسب الزمنكان ومقدار هول التحدّي. حين فوضى الزحام أمام الفُرن أعدّ لمدة نصف ساعة، لساعة، أو لساعتين، إلى أن أحصل على الخبز أتوقف عن العدّ. في زحمة باصات النقل الداخلي أدير وجهي عن رائحة الأنفاس الكريهة والذين لا يزيحون " أيورهم" عن مسّ مؤخرتي حين شقّ الزحمة في عبورهم أعدّ بتوتر. في أول خطوة لدخولي دائرة حكومية حتى أغرب عن وجه الموظف المستبد أعدّ بصمت. حين أزمات السير المزمنة وزعيق زمامير السيارات التي لوّثت سمعي وأحدثت في أذنّي طنين مستدام كنتُ أعدّ بصوت عالٍ. إن صادفتُ رجلاً متعجرفاً و"قحبي" النظرات على خصره مسدسٌ أطول من قضيبه أدير وجهي عن منظره المقرف وأعدّ باحتقار. كلّما رأيتُ صورة رئيس الدولة أو مالك الدولة أو معلم الدولة أو قاهر الدولة لا شعورياً أباشر العدّ في سرّي. مساء كل ثلاثاء بعد تأكيد خسارة الرقم الذي راهنت عليه في لوتو اليانصيب الوطني أحرق السجائر بتتال وأعدّ شتماً. منذ أول يوم لزواجي صار العدّ بالنسبة لي كالهواء الذي أتنفسه في كل لحظة.
سيرتي الشخّصية محض رقم لامتناهٍ، يصعب كتابته وقراءته.
ذات مرّة جرّبت ألّا أتخطى العدّ لبعد العشرة (أعتبر تلك التجربة الفريدة لحظة مضيئة في سيرتي الشخصية) حدث أنّ صديقاً نصف حميم طَعن بأخلاقي أمام الغرباء. نويتُ أن لا أمرّ مرور الكرام على إهانته لي، لمحته قادماً نحوي، شرعتُ بالعدّ على أصابعي، حين مدّ يده للسلام كنتُ قد وصلت للرقم عشرة، تنهدتُ بعمقٍ وقلت له بحزم وإصرار لم أعهدهما سابقاً في سلوكي :
- أنت شخص سيء ابتعد عني.
انتابني حزن شديد وأنا أتابع صديقي بنظراتي، مدبراً عني مطروداً للأبد. داهمني شعور بالكآبة لبرهة طويلة، فجأة انزاحت الغمامة السوداء عن سمائي وغمرني شعور مطلق بالأريحية.
للأسف لم أتّخذ من تلك التجربة الناجحة قاعدة دائمة لسلوكي، الإكتفاء بالعدّ للعشرة وتنفيذ الإجراء المناسب، بعد أيام عدّت مجدداً للرزوح تحت سطوة العدّ لأبعد من العشرة.
بعد سنة من نزوحي عن مسقط رأي وإقامتي في أرض غريبة، أصبتُ بحالة من الشرود المستمر، نبّهني بعض الأصدقاء والأقرباء وطبيب القرية أيضاً أنني أشكو من عطبٍ ما في أخلاقي، أجمعوا على أنني بتّ نزقاً، عدوانياً اتجاه كل ما يحيط بي! وأنني بين حين وآخر أخسر صديقاً أو قريباً لسبب تافه حسب تقديراتهم. وأنني لم أعد الرجل المتسامح، ذو الصدر الواسع، المتعالي على توافه الأمور.
وقفتُ أمام المرآة طويلاً أبحلق في صورتي بحثاً عن العطب الذي تحدثوا عنه، اكتشفتُ أنني منذ سنة لم أمارس العدّ لبعد العشرة، تذكّرت، ذات مرّة قلت لأحدهم أنت منافق، لكن قلتها بعد أن عدّيت للعشرة حين لم يكف عن كذبه حتى قبل العشرة، فاتّخذت بحقه الإجراء المناسب. ثمة آخر كان يدّعي على ما ليس فيه فضقت به، عدّيت للعشرة ولم يصمت عن متابعة تبجحه، وصفته بالساقط وطردته. وآخر ...وآخر...
 أيقنتُ أني شفيتُ من داء العدّ لأبعد من العشرة (العدّ للعشرة مسافة كافية جداً لتحمّل صفاقة الآخر) بصقتُ بغزارة على سيرتي الشخصية المعكوسة على وجه المرآة،  تحطّم الزجاج تحت ثِقل الماء اللّزج المشحون بذكرياتي المخزية في مسقط رأسي.
صنعتُ من غصن الورد على شرفتي مسطرة بمسافة عشرة سنتيمترات، ورحتُ أتربصُ بكل من لا يروق لي، أمسكه من لسانه النظيف وأبطحه على المسطرة، إن كان طوله دون العشرة أبقيته صديقاً أو قريباً على مسافة من الحذر، أما إذا كان طوله أبعد من العشرة شطبتُ اسمه من ذاكرتي للأبد.
        



المقصّ


                                             
                          
        محمد جيجاك

 مهنة تفصيل الألبسة في بلدي الأم أكسبتني مهارة استخدام المقصّ في مجالات جمّة، كأن أقصّ أظافري حين أشرد بإبتكار موديل جديد، أقصّ شعرة متطرفة عن نسق حاجبيّ، أقصّ أماكن الشهوة والإثارة لنساء عاريات من كتالوك ألماني، أقصّ صور العظماء من مجلة ثقافية فصلية، أقصّ شذرات شعرية لصديق مبتدئ كان قد نشرها في جريدة حكومية رديئة الاخراج، أقصّ الدّخان المتصاعد من سيجارتي ليتبدد في الفراغ قبل وصوله للسقف الأبيض، أقصّ لساني حين جدل عقيم مع غبي، أقصّ صلتي بالعالم الخارجي إن استفحل بيّ قلق وجودي، أقصّ الهواء حين لا أجد شيئاً ملموساً أعبث به. مؤخراً، في مغتربي الجديد سويسرا، تعلّمتُ قصّ الوقت، نعم.. قصّ الوقت في بلد يشتهر بصرامته واحترامه الجليل للوقت! أفرشُ كامل وقتي كقماش مزهّر على زجاج نافذة شرودي كل مساء، أقصّه لمزق متباينة الهندسات، ثمّ أرتّبُ الخِرقَ بعناية عجوز بخيل، ضعيف النظر. كلّما غرغر الماء في عينيّ - غالباً بلا سبب يحدث ذلك- تناولتُ خرقة وجففت الماء الساخن المتدفق، أصحح مسار بصري المهترئ، بتعثر أعاود سبر الفراغ الذي يتلبنسي بإحكام، كمغامر في متاهة مجهولة، بلا هدف يصبو إليه.
شاعَ بين أهالي القرية أنيّ “ شنايدر" صفة مهنية تُطلق على من يستعمل المقصّ في مهنته. وماذا تقصّ؟ تسألني نساء فضوليات ألتقي بهن صدفة. أجيب: " دامنكلايدر" توضيحي يثير فيهم الدهشة فيطلقون صيحة: واو ..خياط نسائي! يدبّ فيّ التفاؤل بأن لي فرص وافرة لأمارس مهنتي وأهجر لعبة قصّ الوقت.
مرّ عامان وألف سؤال استفسار عن مهنتي، في محكمة اللجوء، في مكتب الميغراسيون، في الباص، في القطار، في السوبر ماركت. لكن لم يبادر أحد لإختبار ادعاءاتي حول مهارتي في القصّ.
اليوم حظيتُ بجليس ثرثار في القطار، عجوز محنية الظهر، تسير ببطء سلحفاة، تقاوم احتضارها بعناد، سألتني بضع أسئلة بعد نطق اسمها " ماغريت": من أين أنت؟ ما الذي يجري في بلدك حتى أُرغمت على المجيئ لهذه القرية الصغيرة؟ أعرف الكثير عن تاريخ بلدك، زرتها مرتين في صباي، مرّة لبصرى في الجنوب، ومرّة لقلعة سمعان العمودي ومسرح سيفيروس في الشمال، بلادكم غنية بالثقافة لكنكم غير مبالون ..
قالت جملتها الأخيرة وأدارت وجهها عني بسبب رداءة لغتي في توضيح ما جرى لي ولبلدي، وللأوابد التاريخية التي زارتها، رغم ذلك غمرتني سعادة لا توصف، أنّ ثمةّ انسان حدّثني في موضوع مختلف عن القصّ. حين وصلتُ البيت رميتُ المقصّ جانباً ورحتّ أخيّط خرِق الأمس ببعضها، نسجتُ شرشفاً ملوّناً لأتدثر به في ليلي على أمل صباح مختلف. قلت في نفسي " إذن..يوجد ثرثارون في هذا البلد البارد، لا داعي للقلق، يجب أن أكفّ عن لعبة الوقت وأستبدلها بلعبة القطارات، قد أصدف من يوبخني مرّة أخرى وسأرد عليه بما استطعت "
أسرفتُ شهرين بلعبة السفر بالقطارات، جبتُ كل مدن سويسرا، في محطة كل مدينة شربتُ فنجان قهوة، التقطتُّ صوراً في ساحاتها الرئيسة، أمام الصروح التذكارية لعظماء هذه الأمة، من شعراء، فلاسفة، رسامين، موسيقيين، رجال تبرّعوا من مالهم الخاص بلا طائل لشعبهم، لم أجد صرحاً لرجل سياسة من تاريخ هذا البلد، وهذا ما أسعدني لدافع عميق في داخلي! ابتسمتُ بسخاءٍ -بلا سبب جدير- لعابرين لا أعرفهم، كانوا ينظرون لي بوجوه بشوشة.
أنفقتُ راتبي لشهرين متتالين على شراء التذاكر، قطعتُ مئات الأميال بالقطار، عبر الأنفاق الطويلة، فوق الجسور العالية، أستثمرت وحدتي في السفر بحفظ عشرات العبارات الألمانية القصيرة، المتوقع أن أجيب بها على أسئلة مفاجئة، ثمة عبارة رتبتها بعناية في ذاكرتي، لربما صادفتُ تلك العجوز "ماغريت" مرّة أخرى، أو من يشبهها، نويت أن أرد على توبيخها لي بلغة سليمة قواعدياً : نعم ما قلتيه صحيح مائة بالمائة، نحن قوم لا مستهترون بالوقت..  
" كم أنا بحاجة للثرثرة في هذه البلاد الصامتة، كي أنعش وقتي في هذه المقبرة ولو بزهورعقيمة لا تنجب ثماراً!"
 لمحتُ جريدة مرمية بجواري على مقعد القطار في رحلة العودة بعد فشل مصادفة ثرثار يتحرش بي بأسئلة رتّبت لها الأجوبة بعناية. رحتُ أقلّب الصفحات العريضة للجريدة بتقنية مثقف متعجرف في مقهى حلبي، أقرأ العناوين العريضة التي أفهم نصف دلالته، أضغط شفتي للأمام أهزّ رأسي بإيحاء تهكم من الخبر! في الصفحة قبل الأخيرة لمحتُ صورة العجوز ماغريت، أخرجتُ القاموس وترجمتُ ما كتب تحت صورتها:
الوداع الأخير، توفيت في هذا الصباح السيدة "ماغريت فريدريخ موللر" تولد عام 1916، وسيوارى جثمانها غداً في مقبرة القرية.       
شاركتُ تشييع جثمان المرأة الثرثارة الوحيدة في هذا البلد، ألقيت عليها تحية الوداع  الأخير خلسة عن عيون أهالي القرية. في صباح اليوم التالي عدّت مجدداً للعبة الوقت، يائساً من كل محاولاتي البائسة في البحث عما يشغلني عن قصّ الوقت بصمت، كقصّاب بلا زبائن يتسلى بتقطيع اللحم، مع كل تسلية يكتشف شرائح بخسة يزيلها بسكين حاد ويرميها للقطط المحتشدة خلف زجاج محله.