السبت، 31 مارس 2018

يوم صاخب









محمد جيجاك


هي الحكايةُ ذاتُها في كلِ صباح.
في البداية، مع أول بزوغ الضوء، أفترض أنّي أملك احتمالات كثيرة، مقترحات ثريّة، أُداولها مع نفسي قبل النهوض من الفراش والوقوف على قدميّ صاحيًا، قبل صنع القهوة، قبل تناول سيجارتي الأولى بجوار رأسي، غالبًا أدخّن سيجارة عبثًا قبل نهوضي، قبل مغادرة أولادي مع أمّهم مع كامل ضجيجهم إلى المدرسة، قبل فتح نافذة غرفتي لتفقّد سماكة الثلج، قبل تجرّع إحباطي الصباحيّ من المشاهد الهندسية ذاتها لدور بليدة، لا تفكّر بالتّمرّد على خطوطها المستقيمة. منذ أوّل صباح لي في هذه القرية قبل سنتين، لم تتغير ملامح أيّ مشهد من جهات بيتي الأربعة، الأشجار المرصوفة على منحدر الجبل على حالها، بالرّتابة الغبيّة ذاتها، يأتيني خرير ماء النهر بإيقاعه المعتاد منذ الأزل، الذي يذكّرني بشخير جاري السّمين في حلب كلّ ليلة خميس؛ المسكين كلّما عاشر امرأته الّتي لا تقلّ عنه وزنًا واتّساعًا في مساحة الجسد، يخور كالثّور، كأنّه يقتلع جبلًا من جذوره، ثمّ يروح يصفّر بخشونة في نومه ألمًا. في السابعة والنصف ودقيقتين ستمرّ المرأة ذاتها الرصينة في خطوها، مرّت مائة مرة من أمام نافذتي ولم أرَ وجهها لسوء حظّي وحظّها، أفتح النافذة بعد تجاوزها مستقيم نظري من النافذة بثلاث خطوات، فأتبعها بنظراتي المُحبَطة، حفظتُ كل تفاصيلها؛ قامتها من الخلفِ، شعرها الأحمر القصير، الذي بالكاد يلامس أعلى كتفها، مقاس استدارة مؤخرتها الصغيرة، مساحة المثلث التي ترسمه بين ساقيها حين تبعد قدمها عن أختها. بكلّ تأكيد هي لا تعرف مقدار اهتماميِ بها، ولا أنّ هناك كائنًا حفظ مساحة كتلة جسدها في هذا الفراغ الهائل، ربّما تعرف أنّ غريبًا ذا سحنة سمراء يسكن هنا، قادم من جغرافية بعيدة، لا تكلّف نفسها عناء معرفتها ولا البحث حتى عن تلك البلاد على الخريطة المعلّقة في ساحة القرية، أصلًا لا يهمّها أن تعرف عنّي شيئًا، ولا يدفعها الفضول لمعرفة أنّ هذا الغريب الأسمر المُحبَط من كل تفصيل في الحياة الذي يعرف عنها ما لا يعرفه أهلها، جارها، صديقها، حبيبها، أراهن على أنها ستُدهش إن عرِفت أنني أحفظ مقاس خطوتها حين يهطل المطر، حين يرتدي رصيف مسارها ثوب الثلج، حين تزقزق العصافير فوق الغصون التي تمرّ من تحتها.
هي الحكاية ذاتُها، في كل صباح!
كنتُ قد أدرجتُ الكثير من البنود لممارسة أنشطة صاخبة في هذا اليوم المثلج، لمناقشتها مع نفسي أثناء شربِ القهوة وحيدًا؛ مثلًا: بعد قليل سآخذ حمّامًا بماء فاتر، سأنتقي ألبسة متناسقة الألوان، وفق القيم الجماليّة لما قبل ما بعد الحداثة، حذاء على لون قبّعة، لديّ أحذية بألوان متعدّدة، لكن ليس لدي سوى قبّعتين؛ واحدة سوداء أتيت بها من حلب، وأخرى بنّيّة اللّون اشتريتها بفرنك واحد من سوق اللّصوص في برن. كل الأحذية من غير هذين اللّونين أرتديها حين أكون حاسر الرأس، رأسيَ الأصلعُ يناسبه كل ألوان الأحذية. سأحفّ ذقني ببطء وعناية، ليس كما كنت في حلب مستعجلًا بلا أدنى سبب، سأنزع بملقط سيّئ الشعيرات المتطرّفة عن مسار الشفرة، في أعلى خدّي، ثمّ أسير في الشارع الرئيس للقرية تائهًا، كأنّي في صحراء بلا بوصلة ترشدني للجهات، سأستقلّ قطار الساعة الثامنة إلى مدينة لوتسيرن، لن أسلّم عينيّ نافذة القطار مثل كلّ مرّة، مللتُ النهر الذي يوازي مسار السكّة حتى تخوم المدينة، مللتُ ألوان الأشجار في كلّ الفصول، مللتُ مشهد أربعة غزلان في فيرتن شتاين، وأَنف اللّاما المرفوع الرأس أبدًا خلف سلك شائك في فولهووزن، سأصطحبُ معي رواية بالألمانيّة لهرمان هيسه، تلقّفتها أمس على رصيف النفايات في مدينة تون، نظر إليّ صديقي مندهشًا؛ كيف أتجاهل مكواة براون جديدة وأختار كتابًا ورقه أصفر من بين النفايات! سأمثّل في القطار دور القارئ كما يفعل أهل البلد الّذين لا يهدرون وقتهم هباءً، بالتأكيد لا أحد من الركّاب سيعرف إن كنت أجيد الألمانيّة أم لا، أعلم أيضًا أن ليس لدى أحد حفنة فضول الذباب ليسألني عن ذلك. نعم... سأريهم-عن قصد- أنّني أفعل شيئًا ما مثلهم، لستُ عاطلًا عن الحياة كما قيل لهم عنّي قبل وطء أقداميِ بلادهم. سأمشي ببطءٍ فوق جسر كابيلا الخشبيّ، لن أنافس السّيّاح اليابانيين على مساحة ضئيلة فوق الجسر لألتقط صور سيلفي وخلفي البحيرة، سألجُ المدينة القديمة من البوابة التي كان يدخلها ريلكه ذات تيه، سأنظر بانبهار الخبير لمكامن الجمال في كل المباني العتيقة، أتصنّع قراءة موجز تاريخ كل مبنى المثبت على لوح فضّيّ أمام أبوابها العريضة، سأوحي لكلّ عابرٍ يلاحظني بأنني شخص يعرف ما في الحجر من قيم ثمينة من أسرار في أنفاسها لم يبح بها اللّئام من المؤرّخين. فأنا من بلاد ما زال علماؤها، و فقراؤها، ولصوصها، يحفرون الأرض بحثًا عن حصوة تقول لهم سرًّا جديدًا عن تاريخ بلادهم السحيق في الأزل، مع اكتشاف أنّ ثمة برهنة على كذب ما كتبه المارقون فوق أرضها، سأعرجُ صوب مسرح فاغنر، كزبون شغوف بالموسيقى، سأطّلع على البرنامج الشهري في الواجهة الزجاجية، ستراقبني عجوز الريسبشن من فوق نظّارتها، ستنتابها دهشة طفيفة، كالعادة بسبب سواد سحنتي وهندامي المتواضع، لن تسألني إن كنتُ أبحث عن موعدٍ جديدٍ لنشاطٍ مسرحيّ أو أمسية موسيقيّة في هذه المدينة الصغيرة، أو إذا ما كنتُ من محبّي فاغنر المجنون، ولديّ فضول مختلف عن أقراني اللاجئين، ستظنّ أنّي أخطأت العنوان، والمكان اختلط عليّ بين مسرح موسيقيّ راقٍ أو نادٍ ليليّ رخيص، لا سيما بالقرب من الواجهة الزجاجية صورة امرأة نحيلة، عارية تمامًا، تبان كل مفاتنها، لكن وجهها حزين، ولا تحملق في ناظرها بفجور بنات البورنو. أعلم أنّ أهالي هذه المدينة ينفرون من المجانين والمشردين واللاجئين من الدول النامية. ذات صدفة في القطار جلست بجواري عجوز متّقدة الذاكرة، في سياق تبادل المعلومات الأوليّة للتعارف بيننا قالت:
- أنا معجبة بقصص ألف ليلة وليلة وأساطير سندباد!
فأردت ردّ الجميل جميلين على اهتمامها بالثقافة الشرقيّة، قلت:
- يعجبني ريلكه ونيتشه وغوته وهيسه وريتشارد فاغنر.
حدّقت في عينيّ بارتياب، بترت الحديث بموافقة:
- ja ja
ثم سلّمت وجهها نافذة القطار ولم تلتفت إليّ بعدها.
أمّا عجوز الريسبشن في مسرح فاغنر ستبتسم لي بودّ مصطنع لاحتمال ضعيف سيراودها؛ ربما أشتري تذكرة لحضور حفلة هذا المساء، الغد، أو مساء الغد. أجمل ما في هذه المدينة هنّ موظفات المبيعات في المحلات التجاريّة، يبتسمن بسخاء مفرط للزبون، حتى يخال الزبون أنّها ورثت هذه الشركة الكبيرة على غفلة منها عن جدّها الّذي لا تعرفه.
بعد انتهائي من المدينة القديمة سأتدّرجُ صوب رصيف البحيرة، المطاف الأخير لي، ووجهة كل سائح في هذه المدينة، هناك لن أجد حتما من يجالسني، سأجلسُ على طرف مقعد متطرّف، أمام تمثال أرنولد أوت الشاعر الذي لم أقرأ له جملة واحدة، بمصادفة ذات ضياع لي اكتشفت تمثال هذا الشاعر ابن لوتسيرن! سأترك مساحة واسعة من المقعد لعابر تعِبٍ يريد استراحة قصيرة مثلي، سألفّ سيجارة تبغ رخيص ببطء عجوز على عتبة ولوجه جنّة الزهايمر، سأنظرُ طويلًا كأبله حالم في تفاصيل جبل بيلاتوس، وسأحصي قمم سلسلة جبال ريغي، كما في كلّ استراحة لي في هذا المكان، المفاجأة المسليّة أنّني في كل حسبة أخلص لرقمٍ مختلف! سأُلهي نفسي بمتابعة صخب صديقي النّورس النّزِق، على الرغم من اتساع الرصيف فهو دائم الشعور أنّ العالم ضيّق عليه، يسحبُ عظمة رقبَته للخلف بين كتفيه، يُخفض رأسه كلصّ متربّص، ويزعق بأعلى صوته، كأنّه يخبر المحيطين به بزلزال قادم لا محالة.
للحظة - كما في كل صباح مضى- يشدّني السّهو لارتكاب حماقات في الخيال، بفعل سطوة قوة مجهولة، لا أعرف مصدرها، أنسى للحظاتٍ عاداتي الأصيلة، منها: إنّي لم أكن يومًا أؤمن بالخطط المسبقة والمعدّة سلفًا. ولم أُحِل سبب تعاستي للرتابة المتفشّيّة في كلّ تفصيل من وطني.
هذه القرية المرميّة بعبث لجوارِ جبال الألب أفسدت عليّ كلّ شيء، كلّ شيء، حتى الأسرار المرتّبة بتسلسلها الزمني في ذاكرتي.
أنهيت جولتي الخياليّة في مدينة لوتسيرن كما كان يفعل كيركيغارد في كوبنهاغن، إنّما أنا بلا أبٍ يمسك يدي في مشاويره داخل القصر، ويحثّني على تخيّل جمال المدينة لأنسى هول إعاقتي، لم يصف لي أحد مفاتن المدينة بلغة شاعريّة، عدتُ من رحلتي الخياليّة ببضع صور خرساء مزيّفة، وجدت لنفسها مكاناً في ذاكرتي بين آلاف الصور المزيّفة عن وطني.
الكلامُ بصيغة المفرد والجمع، التعابير الزاخرة في دلالاتها، سوء تقدير المسافات والمساحات، قياس الحرارة داخل الغرفة وخارجها، فصل الجوارب عن الألبسة الداخليّة وعن اللباس المخصّص للزيارات الرسميّة، تنسيق الأحذية بحسب ألوانها أمام عتبة الباب، مواعيد حلاقة ذقني، أناقة إلقاء تحيّة الصباح على جارتي الّتي لا تبتسم إلّا حين تردّ التّحيّة وبعد عودة شفتيها لحالتهما الطبيعية تنسى أنّي جارها، وتنسى أنّي ابتسمت لها قبل إلقاء التحية وبعدها. كل تفصيل جميل فسد من تلقاء نفسه أمام استفحال كآبتي...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق