الخميس، 29 يونيو 2017

لا سماء فوق قبر مفتوح






محمد جيجاك

1


المرأة التي تجالسني الآن في مقهى على رصيف بحيرة لوتسيرن، جميلة جداً. كلما دارت وجهها عني لتتابع عراكاً طارئاً بين نوارس ضجرة، أختلس النظر بتمعن لتفاصيل وجهها، لا أحدّق في وجهها بفظاظة كما أفعل مع نصف الجميلات أو أدنى.
انتبهت "سابينا" لحدّة نظراتي اللصيّة لوجهها المائل نحو نورس نزق يمنع أصدقائه وصديقاته من الهبوط على مقربة منه، هزّت رأسها بإيحاء ليأسها عن إيجاد تفسير لرعونة هذا النورس، ومن أين يستمد شرعيته في بسط سلطته على هذه الرقعة من الرصيف! نظرت في عيني مباشرة، لثانيتين فقط، ابتسمت وطلبت منيّ قول ما أشاء في وصف حضورها الآن. في لحظة طلبها ترائ لي طيف صورة سالومي حين اقتحامها قاعة المحاضرة بزخم جمالها فتلعثم فرويد وأغمي عليه كمراهق يفاجئ بإكتشاف سر صادم. انحرف ذهني لتخيّل اسلوب ما لنهاية الحياة. صفنتُ لساعة على الأقل، فكّرت بأشياء عبثية كثيرة، منها، أنني أكره المبالغة في وصف أي ظاهرة ملفتة، وإن فعلت محرجاً، خرجت المفردات من فمي مرتبكة ركيكة الأداء، متوجساً أن ما أقوله يوحي بالتملّق أكثر من الصدق. الحياة علّمتني أنّ الشطّاح في وصفِه له عقل ذو شطرين، شطر للمدح والآخر للذمّ، فلا حرج لديه من رمي الموصوف من الشطر الأول للشطر الثاني وفق احداثيات المنفعة منه.
ساد الظلام، ضياع تفاصيل وجهها في العتمة أوحت لي بصورة أليمة متخيّلة، قلتها دون تردد مغمض العينين :
أكثر ما سيحزنني في القبر
أنني سأراقب بخنوع صورة وجهك
كيف تأكلها الدود في عينيّ
فتحت عينيّ لأراها عائمة على سفح الماء، وتدعوني للغرق بصحبتها.
2


بالأمس ارتقت شرفتي طابقاً آخر للأعلى، لتصل الثامنة والأربعون من العمر، لم أبالِ بما تعنيه هذه المناسبة في بلد يحتفون بيوم الميلاد كل سنة، كأنه حدث لن يتكرر مرّة أخرى. في وطني لم أحتفل أبداً بيوم ميلادي، لمَ عليّ تغيير عاداتي بمجرد تغيير إطلالة نافذتي ولغة الترحيب للمارة ؟
يوم ميلادي في الوطن كنت أحتفي بنفسي بشكل مختلف عن التقاليد المستوردة، وأفرح لسبب لا يتوقعه المحيطون بي. يصدف أن أتعرض في يومها مرات عديدة لسؤال :
- كيف الحال؟
أعلم أنهم لا يعلمون أنّ اليوم هو يوم ميلادي، أبتسم بلا مبالاة وأردّ:
- نحو الأفضل
البعض يكتفي بقول الحمد لله ويمضي. ثمة من تثيره إجابتي غير المألوفة في بلد التعاسة المفرطة. يلحقني بسؤال فضولي استفساري:
- وكيف سيكون نحو الأفضل ؟ تكرّم علينا وأرشدنا للخلاص يا معلم.
أدير وجهي عنه وأقول بثقة:
- تقدمتُ ميلاً آخر صوب زيارة "حنّان"*، هناك ينتظرني الأفضل الذي أسعى إليه
يبتعد عني متمتماً:
- يا رب ارحمنا
كلّما علوت طابقاً هبط مستوى نظري أربعون طابقاً، غاص تأملي لعمق ألف ميل في الذاكرة
. الأفق لم يكن يعني لي في أي تأمّل أبعد من خطوة ولا أقصر من مدى تبدد دخان سيجارتي في الفضاء اللانهائي. يطيب لي من هذا العلو أنني لا أُبصرُ سواي، صامتاً كصخرة لا يطأها الرعاة لتفقد الرعي، بليداً كقبّرة حبلى برائحة التراب الرطب، خاملاً كقشّ في غابة نائية، من شرفتي التي تغيرت ولم أتغير معها، أستمتع بشغب العصافير كطفل مشلول لا يقدر على المطاردة من شجرة لأخرى على امتداد الشارع الطويل. فقط أتسائل: لما العصافير هنا لا تخاف من نظراتي الوقحة كما في وطني الذي هربت منه؟
هذا الصباح فتحتُ صندوق رسائلي، وجدتُ خمس رسائل تهنئة بميلادي، أربع منها أصدقاء جدد، لا أجيد لغتهم ولا هم يثيرهم معرفة لغتي، معرفتهم بي لا تتعدى أنّي غريب حملتني الرياح إلى قريتهم من عالم آخر، وواحدة من صديقة عتيقة لم تبارح الوطن والحرب، على أمل عودتي والإلتقاء بي مجدداً على رصيف المقهى ذاته الذي دمّر بقذيفة مقصودة.
أجبتُ برسالة واحدة على أصدقائي الخمسة :
" طوبى لذاكرتك التي لم تنس تذكيري بيوم ميلادي .. أنّي بخير.. أحبو نحو الأفضل "

...........................................
* زيارة حنّان : مقبرة شهيرة في منطقة عفرين





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق