السبت، 31 مارس 2018

مرآة لوتسيرن















محمد جيجاك





كلوحٍ خَشبيٍّ فاقدِ الصلاحيَّةِ رمتني الرياحُ على سَفحِ ماءِ نهرٍ " Emme" يؤرجِحُني تيّارُ الماءِ كسكّيرٍ مترنّحٍ ينفضُ عن روحِهِ فائضَ الثَّمَل. الخشبةُ أصلُها جِذعُ شَجرةٍ، كانت ذاتَ عمرٍ لها ترتدي ألوانها في مواعيدَ صارمةٍ لا تُخطِئها. كانَ للشجرةِ أذرع وفقَ موازين ثمارها وثِقَل الطيورِ، تمدُّها للريح أَسِرّةً لاستراحاتها من تَعبِ الفضاءِ الشاسع، وأُرجوحةً لطفلٍ في المهدِ رَضَخَ لإلحاح أمهِ في إزاحة بكائهِ عن ظهرها قبل حلول دور أبيه في اتّخاذِ ظَهرِها وسادةً لرأسهِ.
مضى عامان على تيهي البليد في بلدٍ لم أكن حرًّا في خيار مجيئي إليه، أستجيب للنزق وأسلّم روحي للفراغ لتتقاذفني موجات الضياع من زقاقٍ إلى زقاق في مدينة صغيرة على مقاس ابتسامة غريب حين الزحام، ذاك الغريب الفضوليّ يحملق في الوجوه كي يتلقّف ما يفترض أنها حصّته من بشاشة الوجوه العابرة، فلا ينالُ سوى حصّتِهِ من حياديّةِ الوجوه المبطّنة بالازدراء، كأنّه نشازٌ في معزوفة الوقتِ وخطأٌ مقصودٌ ارتكبه الله في رواق مزاجهِ. شفاهُهم تتقنُ رسم الابتساماتِ بذاتِ تقنية امرأة الإعلانات على لوحةٍ دعائية لمُنتجٍ مشكوكٍ بجودته.
 أستلقي تحت شجرة الرصيف حين يكون ظلّها على مقاسِها في الفضاء، أرتادُ صمتي وأنا شاردٌ أُحصي الفراغات المتجاورة بين أوراق ضاقت برصانة هندستها فمالت لجهة ثِقل روحها، أتربّص بهطولِ لحظة صفاءٍ من أرقِ التيه لأتصالحَ فيها مع نفسي ومع الآخرين الذين لا أعرفهم. أعود لبداية الجولة بهدف مختلف عن سابقاتها، أبحث عن مقهى رخيص قذر كما مقهى الموعد في حلب، لا يهمّني إن كنت أعرف أحدًا فيها أو لا، لا يهمّني إن كان أحدٌ في انتظاري هناك أو لا، لا يهمّني إن توقعت قدوم أحدٍ أعرفه أو لا، ما يهمّني ألا يحدّق بي زبونٌ بلؤم كما كان يحدّق بي رجل أمنٍ منتحلًا صفة مثقفٍ في مقاهي بلدي، ما يهمّني ألا يسألني فضوليّ، من أين أنتَ؟ لِمَ أنت هنا؟ ما يهمّني أن أجلسَ خلفَ نافذة الواجهة وأعدّ المارّين، أتساءل عن اختلاف تعابير ملامحهم، أتساءل عن أذواقهم في اختيار ألبستهم، بينما في العمق أفكرّ بأشياء لا صِلة لهم بها.
الطريقُ الذي لا ذاكرة لديه عن وقعِ أقدامي، سأسير في ذات الطريق في كل مرّة مترنّحا، رغم يقظة حواسي الستِّ. هكذا دائمًا تخطئ قدمي اليسرى في تقدير يقظة أختها.
تقودني خطواتي المتعثرة إلى أمام تمثال Löwendenkmal حيث المكان المفضّل لصديقتي الأريتيرية التي كلّما شدّها الشوق للغياب مرّت لتلقي نظرة الوداع الأخير على الأسد الملقى في اضطجاعه الأخير الذي تحجّر الرمح الخشبي في خاصرته فخرجت روحه على  شكل ابتسامةِ ألمٍ أبديّة، نتبادل التحيّة بعربيّة ركيكة ونُكمِل الحديثَ بألمانيّة أكثرَ ركاكة، ونعتذر من بعضنا لعشر مرات في كل لقاءٍ عن جهلي بلغتها التغرينية وجهلها بلغتي الكردية. تصادقنا في شارع" بيلاتوس"، كانت السماء تنزّ رذاذ ماء خجول، جمعتنا المصادفة أمامَ واجهة محلٍ فاخرٍ، كنّا ننظرُ للزجاجِ الذي يَعكسُ صورتنا ثمّ ينظرُ كلّ منّا إلى وجهِ الآخر مستغربًا! اكتشفنا أنّ ثمّة عدمَ تطابقٍ بين الصورة على الزجاجِ ووجهنا في الواقعِ الّذي يعكسه، ابتسمنا لاكتشاف الخدعة ثمّ ولجنا أقربَ مقهى لتداول النظر في وجهي بعضنا بعضا.
   في كل لقاء تكرّرُ صديقتي السؤالَ ولا تنتظرُ مني الإجابة:
- لماذا صورتنا المعكوسة في مرايا هذه المدينة لا تشبهنا؟ أقول لها:
- هكذا هي المرايا التجاريّة الخادعة، تعكسُ ما يطيب لها. تضحكُ صديقتي وتقول بحزن:
- نحن بضاعة بلا زبائن، طغاة بلادنا عرضونا على الأرصفة الغريبة للبيع ولا يحاصصننا الثمن. أردّ:
- صدقتِ يا بنت بلاد الزيلع
 تتجهّمُ في وجهي مُستنكرة تحريفي لنسبِ بلادها، تقول معترضة:
- أنا ابنة أريتيريا، أريتيريا الإغريقية وليس زيلع العربي.
أسألها وما الفرق بين هذا وذاك، ربما مرّ بأرضكم صينيّ وأطلق على تلك البقعة المنسية اسم " تشو بيغ يون"؟ تبتسم لي صديقتي الأريتيرية المسماة بـ "Abraha " أقدمُ ملكٍ خاضَ جدلًا عادلًا لأجل معرفة حقيقة الربّ، قالت بنبرة مهزوم:
-أنت شيطانٌ تأتي الأمور من آخرها، بوجودك أشعرُ أنّ الأرض كالفضاءِ بلا حدود، بلا منغصات في تضاريسها، بلا مفردات تحيّرني في دلالاتها، بلا إله يحيلني لجهة مقدسة لأديرَ ظهري للجهات الأخرى، بلا ألوان تخضعني للمفاضلة، بلا ...، أُسكِتها بقُبلةٍ مُحكَمة، كنتُ قد حكتها بنسيج من الضوء وهواء البحر قبل معرفتي بها، قُبلة كانت تنفع لأيّ امرأة تشبهها، أمسكُ يدها وأقول:
-تعالي نسيرُ في شوارع Altstadt الضيقة دون أن ننظرَ في واجهات المحلات الفاخرة.
.................
- لوتسيرن: مدينة سويسرية صغيرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق