الثلاثاء، 20 فبراير 2018

سؤال من قبو الحرب













 محمد جيجاك 



يسعد صباحك صديقي :
سقطت قذيفة بالقرب من بيتي في عفرين، كنتُ لحظتها في التواليت أتبول بغزارة بعد كرع ابريق شاي كبير لوحدي، تعالَ صراخ ولديّ بصحبة عويل امهما، وقع فانوس الكاز من على الطربيزة، انطفأ النور وعمّ القبو ظلام دامس، القبو البارد والقذر رتبنا فيه أثاث لإقامة مؤقتة، حيث نهبط إليه كلما سمعنا هدير الطائرات تقترب من سماء المدينة، ولأن مدينة عفرين عاصمة دولة حديثة العهد، انبثقت من عبطة الزمن، بين ركام دولة منهارة، بفضل تدهور أخلاق سادة الدول العظمى، ولأن دولة عفرين لا تملك ميزانية مالية سوى رصيد هائل من آهات الولادة، والآهات لا تنفع حتى لشراء زمور خطر ينبح ككلب مذعور قبل قدوم طائرات العدو، لذا نضطر لإبقاء آذاننا منتصبة كأرانب في غابة مكتظّة بالثعالب.
تابعتُ التبول دون رد فعل شرطي على سقوط القذيفة. سمعتُ زوجتي تقول بهمسٍ تهدي من روع ولديها "حمد لله أنها سقطت بعيدة" ابتسمتُ وقلت في سريّ وأنا أصوّب خيط بولي إلى فجوة التواليت الذي لا أبصره. المسكينة تتحايل على نفسها قبل التحايل على ولديها، هي تدركُ تماماً بأن عفرين مدينة صغيرة جداً، وشاءت رغبات الوحوش أن يجعلوا منها ساحة حرب غبية، فلا معنى لكلمة بعيد و قريب.
 البعيد؛ يعني كارثة أيضاً، حلّت ببيت أحد أهالي المدينة، قد يكون بيت صديق، أو بيت أحد المعارف، أو بيت شخص ما صادفناه في مكان عابر، ابتسمنا له دون أن نعرف بيته أين يكون. ربما ضحكنا سوياً ذات شرب شاي وأنا أشتري من محله شيئاً ما، ربما رقصتُ معه يداً بيد في دبكة واحدة ذات عرس لصديق مشترك.
القريب؛ يعني بيتي أو بيت جاري.
 المهم، أنهيتُ التبوّل وعدت للولدين أتحسس وجودهما ونبضهما كأعشى منذ لحظة سقوطه من بين ساقي أمه.
 آثرت أن نبقى في العتمة وأن لا أُشعل الفانوس حتى يتلاشى صوت هدير الطائرة. سألني ابني الذي تخطى الثامنة من عمره، والذي زاد منسوب غبائه أضعافاً إبان الحرب المفاجئة، حيث مع سقوط كل قذيفة أو صاروخ يتعمق غباءه درجة، لا سيما في أسئلته :
 - ما شكل القذيفة التي سقطت تواً بابا؟
أجبت: لا أعرف.
ربما نظر إلى وجهي عبر العتمة ليكتشف عمق جهلي، أو ليتأكد من أنني شخص غير صالح للاستعمال الأبوي. نعم يا صديقي، في الحرب، الرجال يتحولون لحيوانات غبية، والنساء يتحولن لنعجات خرقاء، لا يصدر عنهن سوى الثغاء النزق، وخليط بين الدعاء والشتائم. تركني الطفل الذي ورث نصف غباءه مني تحديداً والنصف الآخر لا أعرف من أين! ذهب لأمه زحفاً ليسألها ذات السؤال.
أجابت أمه التي هي زوجتي، والتي لم أسمع ضحكتها منذ شهر، حيث تنقلب لحمقاء من الدرجة الأولى حين الأزمات الكبيرة، في هذه اللحظة المعتمة من الزمن، لديها تفسير واحد لا غير لهذه الحرب " الله يكره الكرد، يا حيف على كل حصّة عبادة أديّتها لأجله قبل الحرب".
 شرعت توصف للولد شكل القذيفة:
- أنها كرة مدوّرة على شكل بالونة، لكنها محشوة بالمسامير وقطع حديد حادة وديناميت، ما أن تقع على الأرض تنفجر وتتناثر المسامير وشظايا الحديد.
صمت الطفل للحظات، همهم وسأل :
- لكن كيف يحشون البالونة بالمسامير والحديد دون أن تنشقّ وتنفجر بين يديهم؟
- هي بالونة من حديد.
سارعها الطفل بالسؤال:
- لكن كيف هي من حديد وتطير؟
- هي لا تطير، الطيارة ترميها من السماء.
طيب .. قال الطفل، صمت لبرهة ثم سأل :
-الذي يرميها هل يعرف بأنها ستنفجر وستقتل الناس على الأرض؟
- بلى ..يعرف.
- ولماذا يريد قتل الناس.. ماما؟
-لا أعرف !.
حين نطقت ام الطفل التي هي زوجتي بعبارة لا أعرف شعرتُ بأن عقلها عاد لصوابه. كنا قد اتفقنا بعد أن كبر طفلنا الأول وتمكن من صياغة الأسئلة بأن أفضل إجابة لأي سؤال يطرحه وتكون في الإجابة احتمال كره انسان آخر هي "لا أعرف"، لم توافقني زوجتي في حينه، قالت محتجة "الطفل سينمو على غباء، يجب أن نجاوبه ونرشده للمحبة"
عاد الطفل لسؤال أمه:
- آنه .. لماذا الكرد والعرب والترك يكرهون بعضهم البعض؟
أجابت الأم بنزق وغضب:
- لا أعرف ..لا أعرف.
سمعنا دوي قذيفة أخرى أكثر قرباً من الأولى، ثم ساد الصمتُ في القبو المُعتم وخارج القبو أيضاً حتى الصباح
هل سمعت يا صديقي ، لدي طفل معتوه لا يكف عن الأسئلة الغبية عن هذه الحرب الغبية. ماذا أفعل كي أخرسه؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق