الخميس، 29 يونيو 2017

صورة رجل مفقود







محمد جيجاك

هذا المساء في جلستي اليومية على رصيفِ البحيرةِ سأحتالُ على المدى الشاسع، أقلّصُ بُعدَه المديد لحتّى ملامسة ملامح وجوه الشخوص في ذاكرتي القصية. سنتان أرتادُ هذا الرصيف الكئيب، أبحلقُ في الغياب ساعات، كثور مترهل، مشدوه من كاسر يتربص به، أجني لسعات هواء قطبي بارد، يتغرغر الماء في سخونة عينيّ، يتغبّش سفح البحيرة، أُخفق باستحضارِ صورة نقيّة لأكسر بألوانها كأس عرقي الليلي. كل ليلة حين تتوارى النوارس في أوكارها، أتوارى مثلها في أزقة المدينة، جعبتي خالياً حتى من جيفة الكلمات، لأسدّ بها رمق وحش الوحدة الذي يحاصرني أينما ذهبت :
أيها المدى
تكوّر..لمغص طارئ في أحشائِك على الأقل
لي معارف كثر ضيّعوني في عبطة الثورة
قد يبحثونَ عن أثرٍ لي بين ركام الأزقة
يتربصون بي:
"سيمرُّ من هنا هذا الصباح"
" سيعود من هنا في المساء"
"من هنا كان يسير مطأطأ الرأس إن ضاق به العالم"
أيّها المدى
كُن حبلاً متيناً
من قنّب أو حرير أو ضوء مصباح
أشدّك من آخر ما تبصره عيناي في عتم البئر
عيناي مغمضتان، أفتّش جيوب الفراغ بحثاً عن رأس الحبل لأشدّه أو يشدّني إلى أقصى ما يريد.
ربت عابر بلطف على كفيّ ضاحكاً متسائلاً :
- هيييي..هل عُميتَ أم أنّك تمارس اليوغا ؟
فتحتُ عيناي في منتصف الصعود الوعر صوب السماء، إذ بصديقي الايراني "قدرة الله " بضحكته الثعلبية فاجأني بحضوره، كالعادة كغرّ حديث العهد بتدخين السجائر مدّ يده على الفور إلى جيبه، أخرج كنزه الصغير، ضيّفني حفنة خضراء كوجبة دواء لمعالجة الخمول الذي وجده في صوتي :
- خذ حفنة ضِعها بين شفّتك وأسنانك
- ما هذا ؟
- هذا طارد للصور من ألبوم الرأس. أعرف ما بك، كنتُ مثلك، جلستُ على هذا المقعد خمس سنوات ولم أجني سوى الخراب لروحي.
" قدرة الله " يحكي بروح مرحة، بينما كنت أسير فراغ مستبد على ذهني، تناولتُ الحفنة الخضراء الرطبة، تأملتها بلا أدنى فكرة مسبقة عنها.
حدّق في وجهي ملياً، مسكتشفاً جهلي في التعامل مع هذا الدواء، قال بحزن:
- لا تفكّر بشيء، انسَ الماضي، ابدأ حياتك من جديد
حشرتُ الحفنة الخضراء بين شفّتي العلوية وأسناني الصفراء، رحتُ أترقب ماذا سيحدث لي وللمدى الذي أنتظر انقشاعه منذ أربعين سنة.
صديقي "قدرة الله" راح يشاغب مع النوارس على الرصيف العريض، ينثر لها الرذاذ الأخضر، تشتمّ النوارس مذاقه المرّ، تزعق مستنكرة حيلة "قدرة الله" وتفرّ بعيداً إلى عمق المدى. يضحك "قدرة الله" كممسوس ابتكر لعبة مسليّة، التفت إليّ قائلاً بتقطع في أنفاسه :
- هذه النوارس لا تعاني العطب في ذاكرتها مثلنا، هي لم تهاجر من المحيطات إلى هذه البحيرة الصغيرة.
ويتابع ضحكه كفاجر فاشل في اصطياد فريسة.
دَنَت منه فتاة متوسطة الطول، سوداء الشعر، شاحبة الوجه، مهلهلت اللباس، مدّت يدها تطلب منه حفنة من ذاك الأخضر الرطب الذي ينثره للطيور. هَمسَ " قدرة الله" في أذنها وهو يشير إليّ، التفت الفتاة إليّ وتقدّمت صوبي لتجلس بجواري. مرّ خمس دقائق من الصمت بين ثلاثتنا، ذوبت الفتاة الحفنة في فمها، شرعت تعرّف عن نفسها:
-اسمي ديانا، أمي كولومبية أبي فنزويلي، تزوجتُ في الثامنة والعشرين من عمري من رجل سياسي معارض لتشافيز، في يوم ميلادي الثلاثين قررنا أن نحتفل سوياً بدون أصدقاء، أول المساء خرج زوجي " كارلوس " ليبتاع بعض الشموع الناقصة، لكنه لم يعود لحتى الآن، منذ عشرة أعوام أجوب العالم بحثاً عنه. أخرجت صورة مشوهة المعالم من مفرق صدرها، دعتنا نمعن النظر فيها بالتناوب، ثم سألتنا إن كنا نعرفه أو صادفناه في مكان ما، طالما نحن أيضا جُبنا بلاداً كثيرة؟
تبادلنا النظرات بدهشة أنا و"قدرة الله"، كل منّا خمّن أنّ صورة الرجل هي صورته قبل عشر سنوات. حدّقت ديانا في وجهينا بعينيها الغائرتين، بحثاً عن فكرة ما في ملامح كل منا أو في مخيلتها؟ فجأة قهقهت بصوت عال وقالت :
- " كدرة الله " أعطني حفنة أخرى، حين أنتهي من تذويبها سأخمّن أيّ منكما هو صاحب الصورة؟











ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق