الثلاثاء، 23 مايو 2017

المقصّ


                                             
                          
        محمد جيجاك

 مهنة تفصيل الألبسة في بلدي الأم أكسبتني مهارة استخدام المقصّ في مجالات جمّة، كأن أقصّ أظافري حين أشرد بإبتكار موديل جديد، أقصّ شعرة متطرفة عن نسق حاجبيّ، أقصّ أماكن الشهوة والإثارة لنساء عاريات من كتالوك ألماني، أقصّ صور العظماء من مجلة ثقافية فصلية، أقصّ شذرات شعرية لصديق مبتدئ كان قد نشرها في جريدة حكومية رديئة الاخراج، أقصّ الدّخان المتصاعد من سيجارتي ليتبدد في الفراغ قبل وصوله للسقف الأبيض، أقصّ لساني حين جدل عقيم مع غبي، أقصّ صلتي بالعالم الخارجي إن استفحل بيّ قلق وجودي، أقصّ الهواء حين لا أجد شيئاً ملموساً أعبث به. مؤخراً، في مغتربي الجديد سويسرا، تعلّمتُ قصّ الوقت، نعم.. قصّ الوقت في بلد يشتهر بصرامته واحترامه الجليل للوقت! أفرشُ كامل وقتي كقماش مزهّر على زجاج نافذة شرودي كل مساء، أقصّه لمزق متباينة الهندسات، ثمّ أرتّبُ الخِرقَ بعناية عجوز بخيل، ضعيف النظر. كلّما غرغر الماء في عينيّ - غالباً بلا سبب يحدث ذلك- تناولتُ خرقة وجففت الماء الساخن المتدفق، أصحح مسار بصري المهترئ، بتعثر أعاود سبر الفراغ الذي يتلبنسي بإحكام، كمغامر في متاهة مجهولة، بلا هدف يصبو إليه.
شاعَ بين أهالي القرية أنيّ “ شنايدر" صفة مهنية تُطلق على من يستعمل المقصّ في مهنته. وماذا تقصّ؟ تسألني نساء فضوليات ألتقي بهن صدفة. أجيب: " دامنكلايدر" توضيحي يثير فيهم الدهشة فيطلقون صيحة: واو ..خياط نسائي! يدبّ فيّ التفاؤل بأن لي فرص وافرة لأمارس مهنتي وأهجر لعبة قصّ الوقت.
مرّ عامان وألف سؤال استفسار عن مهنتي، في محكمة اللجوء، في مكتب الميغراسيون، في الباص، في القطار، في السوبر ماركت. لكن لم يبادر أحد لإختبار ادعاءاتي حول مهارتي في القصّ.
اليوم حظيتُ بجليس ثرثار في القطار، عجوز محنية الظهر، تسير ببطء سلحفاة، تقاوم احتضارها بعناد، سألتني بضع أسئلة بعد نطق اسمها " ماغريت": من أين أنت؟ ما الذي يجري في بلدك حتى أُرغمت على المجيئ لهذه القرية الصغيرة؟ أعرف الكثير عن تاريخ بلدك، زرتها مرتين في صباي، مرّة لبصرى في الجنوب، ومرّة لقلعة سمعان العمودي ومسرح سيفيروس في الشمال، بلادكم غنية بالثقافة لكنكم غير مبالون ..
قالت جملتها الأخيرة وأدارت وجهها عني بسبب رداءة لغتي في توضيح ما جرى لي ولبلدي، وللأوابد التاريخية التي زارتها، رغم ذلك غمرتني سعادة لا توصف، أنّ ثمةّ انسان حدّثني في موضوع مختلف عن القصّ. حين وصلتُ البيت رميتُ المقصّ جانباً ورحتّ أخيّط خرِق الأمس ببعضها، نسجتُ شرشفاً ملوّناً لأتدثر به في ليلي على أمل صباح مختلف. قلت في نفسي " إذن..يوجد ثرثارون في هذا البلد البارد، لا داعي للقلق، يجب أن أكفّ عن لعبة الوقت وأستبدلها بلعبة القطارات، قد أصدف من يوبخني مرّة أخرى وسأرد عليه بما استطعت "
أسرفتُ شهرين بلعبة السفر بالقطارات، جبتُ كل مدن سويسرا، في محطة كل مدينة شربتُ فنجان قهوة، التقطتُّ صوراً في ساحاتها الرئيسة، أمام الصروح التذكارية لعظماء هذه الأمة، من شعراء، فلاسفة، رسامين، موسيقيين، رجال تبرّعوا من مالهم الخاص بلا طائل لشعبهم، لم أجد صرحاً لرجل سياسة من تاريخ هذا البلد، وهذا ما أسعدني لدافع عميق في داخلي! ابتسمتُ بسخاءٍ -بلا سبب جدير- لعابرين لا أعرفهم، كانوا ينظرون لي بوجوه بشوشة.
أنفقتُ راتبي لشهرين متتالين على شراء التذاكر، قطعتُ مئات الأميال بالقطار، عبر الأنفاق الطويلة، فوق الجسور العالية، أستثمرت وحدتي في السفر بحفظ عشرات العبارات الألمانية القصيرة، المتوقع أن أجيب بها على أسئلة مفاجئة، ثمة عبارة رتبتها بعناية في ذاكرتي، لربما صادفتُ تلك العجوز "ماغريت" مرّة أخرى، أو من يشبهها، نويت أن أرد على توبيخها لي بلغة سليمة قواعدياً : نعم ما قلتيه صحيح مائة بالمائة، نحن قوم لا مستهترون بالوقت..  
" كم أنا بحاجة للثرثرة في هذه البلاد الصامتة، كي أنعش وقتي في هذه المقبرة ولو بزهورعقيمة لا تنجب ثماراً!"
 لمحتُ جريدة مرمية بجواري على مقعد القطار في رحلة العودة بعد فشل مصادفة ثرثار يتحرش بي بأسئلة رتّبت لها الأجوبة بعناية. رحتُ أقلّب الصفحات العريضة للجريدة بتقنية مثقف متعجرف في مقهى حلبي، أقرأ العناوين العريضة التي أفهم نصف دلالته، أضغط شفتي للأمام أهزّ رأسي بإيحاء تهكم من الخبر! في الصفحة قبل الأخيرة لمحتُ صورة العجوز ماغريت، أخرجتُ القاموس وترجمتُ ما كتب تحت صورتها:
الوداع الأخير، توفيت في هذا الصباح السيدة "ماغريت فريدريخ موللر" تولد عام 1916، وسيوارى جثمانها غداً في مقبرة القرية.       
شاركتُ تشييع جثمان المرأة الثرثارة الوحيدة في هذا البلد، ألقيت عليها تحية الوداع  الأخير خلسة عن عيون أهالي القرية. في صباح اليوم التالي عدّت مجدداً للعبة الوقت، يائساً من كل محاولاتي البائسة في البحث عما يشغلني عن قصّ الوقت بصمت، كقصّاب بلا زبائن يتسلى بتقطيع اللحم، مع كل تسلية يكتشف شرائح بخسة يزيلها بسكين حاد ويرميها للقطط المحتشدة خلف زجاج محله.
 
 




















ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق