الثلاثاء، 23 مايو 2017

الفيس بوك منصّةً الذات الزيّفة

محمد جيجاك: كاتب سوري


بحسب ريجيس دوبريه، آخر ابتكار لآلية التفاهم والتواصل بين البشر هي الصورة. الصورة، شكل زائد حركة يساوي فكرة”. الصورة نصّ منجز المعنى” رولان بارت، لقراءتها شروط خاصة بها. فالعين تقرأ صمتاً، ثم تحيل مفردات الصورة للعقل، يفككها، يركّبها، يؤولها حسب سياقها، ليقبض على الرسالة الخفية. فقراءة الصورة الإعلامية لا تحتاج لخبرة معرفية عميقة، على نقيض النصّ الشفاهي أو المحرر. ردّ فعل الجاهل والمتعلّم على الصورة متقارب جداً،  سلباً أو إيجاباً، إلّا إذا كان المتعلّم لديه خبرة كافية في اكتشاف ضعف تقنية تزيف الصورة.
دأبت الشركات المصنّعة للتكنولوجيا على تطوير منتجاتها لتناسب حاجات المؤسسات الإعلامية ذات البعد العالمي، سياسة/ ثقافة/ تجارة. كي تتمكّن هذه المؤسسات من نسخ صور عن الواقع بحرفية عالية، تخدع الجمهور لحدّ لا يستطيع إنكار واقعية الصورة. انتبه الفليسوف الفرنسي جان بودريار لهذا السلوك المضلل الواسع النطاق، فأطلق صرخته: “موت الواقع”، ليحلّ محله واقع مزيف، ويكون المزيف طاغياً وفاعلاً.
شبكات التواصل الاجتماعي مادة للسوق، تبيع نفسها وتتيح للزبائن بيع منتجاتهم “المادية والمعنوية” عبرها. منصّات رقمية، في الظاهر مجانية، متاحة لكل فرد في العالم، متخطّية حدود الجغرافيا بين الدول، حدود اختلاف اللغة، حدود الثقافات المتباينة. إذا كانت هيئة الأمم المتحدة مقرٌّ لحكومات دول العالم، فمنصات التواصل الاجتماعي مقرات الشعوب. وعليه، سنة 2010 اختارت مجلة “Time” الأمريكية الشابّ مارك زوكربيرغ ” شخصية العام” مبررة اختيارها بأنه “ساهم من خلال ابتكاره لموقع الفيس بوك في تغيير حياة مئات الملايين من البشر”.
مناسبة هذا الكلام، أن صديقي السويسري لمح صدفةً أن رقم أصدقاء صفحتي “520” صديقاً، فأطلق صيحة دهشة وكأنّه اكتشف سرّ في حياتي: “WOW.. أنت شخصية عامة!”. ابتسمت مستغرباً من دهشته، وأجبته: “طبقاً لمعيارك، السوريون كلهم شخصيات عامة”. بتعبيرٍ آخر، كل من لديه صفحة الـ”فيس بوك” ولديه أصدقاء لا يعرفهم في الواقع هو شخصية عامة، بشكل ما. إذاً، خارج الـ”فيس بوك” أنا شخصية مغمورة، لا حضور لي، مع الـ”فيس بوك” صار لاسمي حضور في الأصقاع البعيدة قبل القريبة.
ولكن هل حقّاً هذا التقييم واقعي وموضوعي؟ وهل فعلاً تحولتُ لشخصية عامة، ويترتّب عليّ صياغة خطاب “فيس بوكي” يناسب مكانتي الاجتماعية الجديدة هذه؟ أم أبقى مستمراً على ما أنا عليه في الواقع ولا أخدع نفسي قبل الآخر؟.
تشير الدراسات الاجتماعية والنفسية حول “الفيس بوك”، أنه وسيلة تتيح التركيز على الذات، فيما يظهر على أنه يركّز على علاقتنا مع الآخرين، إنه مرآة تتنكر على أنها نافذة. ولنأخذ مثالاً عشوائياً من بين ألاف المنشورات “الفيس بوكية”: حصل مثقف كردي على موافقة طلب لم شمله فمنحته السفارة السويسرية ورقة عبور لمرة واحدة ” Lasepase” باعتبار جواز سفره كان منتهي الصلاحية، بعد أن حصل بتعثر على الإقامة الدائمة، واطمأن باله، كتب على صفحته: “أرسلت لي الحكومة السويسرية جواز سفر خاص لآتي إلى سويسرا وتضمن سلامة حياتي”.
هذا المثقف استثمر بدهاء إمكانية الخدع الذي يوفّره موقع التواصل الاجتماعي “الفيس بوك”، فزّيف واقع الحدث بحرفيّة، كي يقنع قارئه على أنه شخصية عامة، لها ثقل وازن وأهميّة وحضور، ليس فقط لدى أصدقائه الافتراضيين، بل لدى حكومات الدول أيضاً. هذه الخدعة أو الخديعة، يتيحه الفيس بوك بتوفر العناصر العالية:
1- الغالبية العظمى من أصدقائه الافتراضيين غير مطلعين على مجريات الحدث في الواقع. وبالتالي تنعدم فرصة المواجهة والتفنيد، لصالح تصديق ما يدعيه صاحب المنشور.
2- استغلال طيبة المقربين الذين يعرفون الحقيقة، لكنهم سيلتزمون الصمت أمام العامّة. أمّا تكذيبه في الواقع، فلا يؤثّر على تحقيق غاياته الدفينة من المنشور.
3- استعراض الذات بإرتداء مفردات فضفاضة ذات وقع لافت؛ “جواز سفر خاص/سويسرا/ تأمين حياة آمنة…”، والعبارة الأخيرة تحيل القارئ لتقدير أهميته الثقافية والفكرية. وهي الرسالة الأكثر أهميّة التي أراد إيصالها للقارئ.
4- إمكانية تلاعبه بالألفاظ، أثناء مواجهته بحقائق منطقية، كطرح سؤال مفاجئ : لماذا لم تحصل على الإقامة إلّا بعد عامين ونصف طالما الحكومة اعترفت بأهميتك قبل أن تطأ أرضها؟!.
5- أثناء احتدام المواجهة بالحقائق، سيحذف المنشور ببساطة، ويتنكر لفعلته.
بالطبع ثمة دوافع نفسية عميقة خلف انتهاج هذا المثقف سلوك الادعاء لما ليس هو عليه في الواقع، شأنه شأن أي مثقف سوري آخر، نشأ مشوه النفس والذات، في مرحلة تاريخية انعدمت فيها الحرية، لم يُتح له فرصة ارتقاء منبر إعلامي عام ليستعرض ذاته كما يشاء، لا سيما بالنسبة لمثقف كردي الانتماء، حيث صوته كان تحت مراقبة حثيثة من قبل السلطات الثقافية في الشرق الأوسط، الذي يعيش فيه.
وصفتُ هذا المزيّف، بالمثقف، ضمن التعريف الواسع للمثقف القائل؛ “كل من أنتج مادة ثقافية، بغض النظر عن جودتها، وعرض مادته أمام العامة”. وليس المثقف بتعريفه الأكاديمي، المثقف الذي ينتج فكراً بمفاهيم مبتكرة، خاصة به، المثقف المنهمك في البحث عن الحقيقة. أما هذا المثقف، صاحب المثال المذكور أعلاه، أمثاله كثر، ممن الذين اقتنصوا ميزات الـ”فيس بوك” لاستعراض ذاته المتضخمة افتراضياً، لتعويض هشاشتها الواقعية، كما أوضح الباحث والاكاديمي الفرنسي “باسكال بونيفاس” مهام هذا الصنف من المثقفين بدقة: “هو الذي يدافع عن قضية عامة لا ليخدمها بل يستخدمها لتحسين شهرته وحيزه الشخصي في المشهد الثقافي والفكري”.
والسؤال: ماذا غيّر الفيس بوك في المثقف الكردي والكردي عموماً؟. الكردي مثله مثل أبناء أي مكوّن سوري آخر؛ الكل حرم من العيش بكرامة الإنسان الحر، والاعتزاز بالنفس، لم يتح له أن يبلور شخصيته الحرة الخاصة كما يشاء. إلّا أن الكردي كان له حصص إضافية من الحرمان؛ حرم من الكتابة بلغته الأم، ومن التعبير عن خصوصيته القومية حتى باللغة العربية، ما جعل منه إنسان مكتئب، فاقد الشعور بوجوده ككائن يحظى بعمق معنوي، الثقافة والأدب والفنون حاجة بشرية كالماء والغذاء والجنس. عموماً، طغى على الكردي شعور اليأس السطحي، ذي طباع فصامي، يعتقد أن حياته هباء، بلا معنى، وفي آنه يتمسك بالحياة كطفل رضيع، يبكي إن غابت أمه. نبت المثقف الكردي في أرض مضطربة، ونما على تغذية ذهنه بمشوهات فكرية وثقافية. يقفز من محاكاة آخر ما أنتجه الفكر والحضارة الإنسانية ليعود إلى الواقع ويعيش كما لو أنه لم يغادر أساطير الأزمنة الغابرة من تاريخ قومه. انقسم المثقف الكردي على نفسه في تحديد وجوده السياسي؛ هل هو سوري أم كردستاني؟. صَعُبَ عليه إيجاد صيغة ناجعة تنتشله من التيه بين الهويتين. اهتمامه بالثقافة والأدب لم تسعفه، لأنه لم يقوَ على تخطّي أسئلة محليّة ضيّقة، لينشغل بأسئلة عامة كبرى؛ أسئلة تطال الحقائق الكبرى حول الإنسان. فبدا تعاطيه مع الثقافة طارئاً، مشروط بحال قومه. وسلّم زمام أمره للسياسي، وانساق مع الخطاب السياسي على حساب إنتاج الفكر والثقافة، فطاب له أن ينخرط في التنظيم الفكري للأحقاد السياسية، حسب تعبير جوليان بندا.
عرىّ الـ”فيس بوك” السوية المعرفية للمثقف الكردي، ومقدار همّه الثقافي، فبان ضحل الروح، يرزح تحت سطوة إظهار ذاته بأبهى الصور، حتى لو كانت صورة مزيفة، طارئة. حين أتاح الـ”فيس بوك”  له الإفلات من رقابة السلطة، لكنه أبى أن يكتب بلغته الأم! متذرعاً، ليس هناك جمهور كافٍ يقرأ ما سيكتبه باللغة الكردية. إذاً، هاجسه الرئيس أن يَسمع صدى صوته من بعيد، وعلى الفور. ذروة ضياعه وتشوش ذهنه يتجلى حين يعرّف عن نفسه بعبارة مضحكة “كاتب كردي سوري يكتب بالعربية” هذا التعريف الغريب مازال يستخدمه على منصة الـ”فيس بوك”، في صفحته الشخصية!، العبارة توضّح تماماً أزمة الهوية لديه، من جانب، ومن جانب آخر أزمة إقناع الآخر بفرادته وتميّز ذاته.
لم أسمع فليسوفاً من الذين أحدثوا انعطافاً في الحضارة الإنسانية، عرّف عن نفسه “أنا فليسوف يهودي نمساوي أكتب بالألمانية”. بينما كان هرتزل اليهودي مشغولاً بالبحث عن أرض يجمع عليها اليهود من الشتات، كان فرويد اليهودي يحلل النفس البشرية، وكان إنشتاين اليهودي يقيس سرعة الزمن. وقبلهما أطلق كارل ماركس “يا عمال العالم اتحدوا”، كانوا هؤلاء وغيرهم يشتغلون للإنسان بعمومه، كإحدى مهام المثقف. أما المثقف الكردي فلم يستغل ظرفه البائس كظرف اليهود في القرن الثامن والتاسع عشر، ليستثمره في طروحات إنسانية عامة تفرض وجودها على الفعاليات الثقافية في عموم البلاد، بل عاش ومازال ملاصقاً لرجل السياسة، يلهث ورائه، يتوسل الاعتراف به كمثقف قومي، متخلياً عن مهامه في طرح أسئلة جوهرية تمس الثقافة الإنسانية في حدودها الدنيا.
قصارى القول: قسّم الـ”فيس بوك” المجتمع الكردي لشريحتين متلاصقتين، الأولى “العوام” ضعيفي القراءة، يسلب ألبابهم المفردات الفاقعة؛ كردستان/ الكردياتية/ بيشمركة/ كريلا/  وحدة الصف الكردي. مهمتها التصفيق، إطلاق عبارات الثناء والمجاملة للشريحة الثانية “المثقفين” التي تتميز عن الأولى بإجادة قواعد اللغة العربية لتكتب ما ترتضيه الشريحة الأولى، وتكريس ما هو مكرّس من خطاب شعبوي، مبني على العاطفة الفياضة، التي بها يعيد صياغة ذاته المحطّمة.

عن مركز الدراسات الكردية السويدية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق