الخميس، 29 يونيو 2017

دودة تحلم بقوس قزح في العتمة




محمد جيجاك 


الوقتُ جثّة، أنا دودةٌ مشلولة
أجوبُ الجثّة زحفاً شُرفة.. شُرفة، كرحالة يبيّت نوايا خبيثة في البحث الشغوف عن أسرار المدينة، حين يدبّ الإحباط بي أنكشُ ذاكرة الجثّة بأظافرِ قطّ محاصرٍ بالموت، كلّما طَفت صورة على السطحِ التهمتها.. أكلتُ صور مزابل حيينا الشعبي، ساحات اللعب والمرح في الطفولة، أكلتُ صورة استاذ اللغة العربية وهو يرتّب نظّارته السميكة، أكلت الصورة الخلفية لأنسة الفرنسي القبيحة الوجه، أكلتُ صورة الحائط الذي كتب عليه الكسالى من الطلاب ألف رسالة ركيكة لتسعين فتاة في ثانوية طارق بن زياد، أكلتُ كل االخرق المدوّنة عليها الشعارات الوطنية والقومية والأممية، نظّفت ساحة سعدالله الجابري من كل نفايات الحملات الإنتخابية المزيفة، أكلتُ صور القبّرات والبلابل والحسون والصيصان الصفراء المتسكعات في حواكير القرية. انتظرتُ بشغف أن ينمو على جسدي العاري زغب، زغب يراقصه هواء صيفي فيطول كريش دجاجة جدتي، ربما جناحين صغيرين أيضاً، منقار ناعم على سعة حبة قمح، ساقان قصيران، أسير بهما مغمض العين..
تلوّث بياضي بألوان كل الصور التي أكلتها.. كنتُ آمل أن أصير قوس قزح يقوّس ظهر العَتمة، إنّما الشوائب المتعشعشة في لقطة أصبغتني بلون قاتم على هيئة صرصار أمريكي أعمى.
الوقت جثّة، أنا دودة نظيفة
جشع الذباب الأزرق شلّ حواسي الخمس، أزرقه المبهر خدش سعة عيناي في العتمة، نسج من خرائه رادءًا محكماً للجثة، لم يهبني حتى مساحة رأس دبوس أتذوق منها ما بقي من حلاوة الوقت، فقّس بيوضه في كل مسام، حيث أضع قدمي ينهار اللحم ليحدث فجوة من العدم. الذباب الأزرق من هواياته وطأ الأزهار الفاقعة في الربيع وإن شمّ رائحة جثّة ترك ألوان الربيع وطار إليها ليحوّلها إلى جيفة نتنة تهرب منها حتى نسور الكندور، طنينه في هدوء العتمة صمّ أذناي، كم يشبه طنينه ثرثرة ثريّ القرية مع رجل الدين في مجلس عزاء فقير، يا لهم من حمقى.. لهم أجنحة الذباب ويتجادلون طوال الوقت عن صيغة المساومة مع الحياة !
الوقت جثّة، أنا دودة شاردة

دائماً لا أجد الرأي السديد المناسب لي إلّا بعد فوات الأوان، أهزّ رأسي على عجل مع ابتسامة بلهاء، يظنّ سائلي أنّي موافق على ما اقترحه! وهكذا.. أصدقائي السفهاء كثر، ألصقوا بي صفة الأبله المبتسم دائماً. أبتعد عنهم خطوتين من الخيبة، أسخرُ منهم، وأضحك بألمّ كأبله عاجز عن ردّ الصبية عنه، يدمع بحرقة مدركاً تماماً عمق الضحالة في معنى كل شيء.

صورة رجل مفقود







محمد جيجاك

هذا المساء في جلستي اليومية على رصيفِ البحيرةِ سأحتالُ على المدى الشاسع، أقلّصُ بُعدَه المديد لحتّى ملامسة ملامح وجوه الشخوص في ذاكرتي القصية. سنتان أرتادُ هذا الرصيف الكئيب، أبحلقُ في الغياب ساعات، كثور مترهل، مشدوه من كاسر يتربص به، أجني لسعات هواء قطبي بارد، يتغرغر الماء في سخونة عينيّ، يتغبّش سفح البحيرة، أُخفق باستحضارِ صورة نقيّة لأكسر بألوانها كأس عرقي الليلي. كل ليلة حين تتوارى النوارس في أوكارها، أتوارى مثلها في أزقة المدينة، جعبتي خالياً حتى من جيفة الكلمات، لأسدّ بها رمق وحش الوحدة الذي يحاصرني أينما ذهبت :
أيها المدى
تكوّر..لمغص طارئ في أحشائِك على الأقل
لي معارف كثر ضيّعوني في عبطة الثورة
قد يبحثونَ عن أثرٍ لي بين ركام الأزقة
يتربصون بي:
"سيمرُّ من هنا هذا الصباح"
" سيعود من هنا في المساء"
"من هنا كان يسير مطأطأ الرأس إن ضاق به العالم"
أيّها المدى
كُن حبلاً متيناً
من قنّب أو حرير أو ضوء مصباح
أشدّك من آخر ما تبصره عيناي في عتم البئر
عيناي مغمضتان، أفتّش جيوب الفراغ بحثاً عن رأس الحبل لأشدّه أو يشدّني إلى أقصى ما يريد.
ربت عابر بلطف على كفيّ ضاحكاً متسائلاً :
- هيييي..هل عُميتَ أم أنّك تمارس اليوغا ؟
فتحتُ عيناي في منتصف الصعود الوعر صوب السماء، إذ بصديقي الايراني "قدرة الله " بضحكته الثعلبية فاجأني بحضوره، كالعادة كغرّ حديث العهد بتدخين السجائر مدّ يده على الفور إلى جيبه، أخرج كنزه الصغير، ضيّفني حفنة خضراء كوجبة دواء لمعالجة الخمول الذي وجده في صوتي :
- خذ حفنة ضِعها بين شفّتك وأسنانك
- ما هذا ؟
- هذا طارد للصور من ألبوم الرأس. أعرف ما بك، كنتُ مثلك، جلستُ على هذا المقعد خمس سنوات ولم أجني سوى الخراب لروحي.
" قدرة الله " يحكي بروح مرحة، بينما كنت أسير فراغ مستبد على ذهني، تناولتُ الحفنة الخضراء الرطبة، تأملتها بلا أدنى فكرة مسبقة عنها.
حدّق في وجهي ملياً، مسكتشفاً جهلي في التعامل مع هذا الدواء، قال بحزن:
- لا تفكّر بشيء، انسَ الماضي، ابدأ حياتك من جديد
حشرتُ الحفنة الخضراء بين شفّتي العلوية وأسناني الصفراء، رحتُ أترقب ماذا سيحدث لي وللمدى الذي أنتظر انقشاعه منذ أربعين سنة.
صديقي "قدرة الله" راح يشاغب مع النوارس على الرصيف العريض، ينثر لها الرذاذ الأخضر، تشتمّ النوارس مذاقه المرّ، تزعق مستنكرة حيلة "قدرة الله" وتفرّ بعيداً إلى عمق المدى. يضحك "قدرة الله" كممسوس ابتكر لعبة مسليّة، التفت إليّ قائلاً بتقطع في أنفاسه :
- هذه النوارس لا تعاني العطب في ذاكرتها مثلنا، هي لم تهاجر من المحيطات إلى هذه البحيرة الصغيرة.
ويتابع ضحكه كفاجر فاشل في اصطياد فريسة.
دَنَت منه فتاة متوسطة الطول، سوداء الشعر، شاحبة الوجه، مهلهلت اللباس، مدّت يدها تطلب منه حفنة من ذاك الأخضر الرطب الذي ينثره للطيور. هَمسَ " قدرة الله" في أذنها وهو يشير إليّ، التفت الفتاة إليّ وتقدّمت صوبي لتجلس بجواري. مرّ خمس دقائق من الصمت بين ثلاثتنا، ذوبت الفتاة الحفنة في فمها، شرعت تعرّف عن نفسها:
-اسمي ديانا، أمي كولومبية أبي فنزويلي، تزوجتُ في الثامنة والعشرين من عمري من رجل سياسي معارض لتشافيز، في يوم ميلادي الثلاثين قررنا أن نحتفل سوياً بدون أصدقاء، أول المساء خرج زوجي " كارلوس " ليبتاع بعض الشموع الناقصة، لكنه لم يعود لحتى الآن، منذ عشرة أعوام أجوب العالم بحثاً عنه. أخرجت صورة مشوهة المعالم من مفرق صدرها، دعتنا نمعن النظر فيها بالتناوب، ثم سألتنا إن كنا نعرفه أو صادفناه في مكان ما، طالما نحن أيضا جُبنا بلاداً كثيرة؟
تبادلنا النظرات بدهشة أنا و"قدرة الله"، كل منّا خمّن أنّ صورة الرجل هي صورته قبل عشر سنوات. حدّقت ديانا في وجهينا بعينيها الغائرتين، بحثاً عن فكرة ما في ملامح كل منا أو في مخيلتها؟ فجأة قهقهت بصوت عال وقالت :
- " كدرة الله " أعطني حفنة أخرى، حين أنتهي من تذويبها سأخمّن أيّ منكما هو صاحب الصورة؟











للحرب ضفة واحدة








محمد جيجاك





طوال الحرب في بلدي الذي هربت منه -كانت ثورة ثمّ تحولت لحرب بقدرة قادر- لم أتفوّه بجملةٍ مفيدة، صغتُ عباراتي القليلة _التي تفوّهت بها محرجاً في لحظات حرجة_ بعناية لتكون على مقاس إعلانات مبوّبة عما يجول في داخلي، كانت بوحات أقصر من طولي الموصوف بالقزم لدى زملائي الساسة الذين هم نتاج جينات البغال.

بوحات أخفّ من وزني المقدّر بوزن الذبابة، بمكيال بائعي الكلام في سوق الصحف الصادرة عن أحزاب تشتري أيديولوجياتها من السوق بثمن يقدّر بزاوية الركوع، بوحات أنحفُ من جذع الريحانة بتقدير شاعر لا يعرف من جمال المرأة سوى نحول خصرها، بوحات لم تكن أبعد من أنفي الأفطس الذي هو أكثر “فطاسة” من أنف كونت كونتي.

ما حدث لي من بلادة حين تحوّلت الثورة لحرب كان عوداً حميداً لما كنته قبل الثورة، حيث استعاد زملائي ذاكرتهم عن ضحالة آرائي في الحياة، منها “ذو البصيرة القصيرة كإطلالة نافذة على مقبرة مهجورة”. وهذا ما أعترف به أنا أيضاً، لم يحدث أن عانيتُ -كزملائي على طاولة السكر- من زحام الصور الشعرية في مخيلتي، دائماً كان رأسي كصندوق بويا لماسح أحذية ذو طباع مستهترة بالحياة، لا يهوى من الصبغات سوى اللمّيع الذي بلا لون لكنه يرصّع كل الألوان ببريق مزيف. ذاكرتي قصيرة جداً، لا تتسع لحفظ عبارة قرأتها صدفة على قصاصة سقطت من سلّة مهملات، ولا قول مأثور هرَّ من فم غرّ في الحياة تلقّفها بعناية من كتاب عابر بين يديه بعد أن اقشعر بدنه من الدهشة. جدران رأسي الداخلية كجدران غرفة نومي خالية من المقولات المنجزة وحكم المشاهير، والأمثال الشعبية، ولم أدقّ فيها مسماراً لأعلّق على مساحة الفراغ صورة زعيم سياسي أو أديب أو فليسوف مجنون.

في الحرب، اكتشفت أن لا فسحة للمهادنات في دماغي، لن ألوّثها بأثار أقدام -نظيفة وقذرة- لأصدقاء، لأقرباء، لعابري كلام، موتى وأحياء، ولا حتى لأنفاس امرأة عابرة بجسدها ذات تيه وضعت رأسها على مخدة سريري لتبكي ندماً على خداعها لرجل أحبّته ذات طيش. لم أفكّر لحظةً باقتناء لوحة فنيّة، رغم إعجابي بالسورياليين وهواة الرسم على جدران الأنفاق، ولا مؤلفات موسيقية، رغم حاجتي اليومية لسماع توفيق الباش وعارف صاغ ورعب ريتشارد فاغنر. لم يستهويني سماع مشاهير الملتزمين والسوقيين من المغنين (الكلام يفسد الموسيقى) لم يخطر ببالي يوماً أنّني بحاجة لساعة حائط رخيصة حتّى لو كانت بلا منبّه، ولا لزهور أزيّن بها “درابزون” شرفتي.

في الحرب، ترسّخت قناعتي القديمة، على أنّني لست بحاجة ليفهمني أحد، ولا أن أفهم أحداً.

طوال عمري لم أكن لاعباً في ميدان تبادل الآراء، لعبةٌ سخيفة يمارسها الحمقى لتزجية الوقت، كم هم عديمي الإحساس! رغم قراءاتهم لألاف الكتب لم يدركوا أنّ الحرب لم تتوقف لحظة عبر التاريخ، وأنّ زمن الحرب كزمن السلم لكن بدقات مزعجة لعقارب الساعة، فيا قارئي.. لا تعوّل على ما أقول، كي لا تحرجني بردّ الجميل وأعوّل على ما تقول.

خوفي من خوض الحرب لم يسُقني نحو العزلة، كما هو شائع لدى المقرّبين منّي، إنّما جملي القصيرة ساقتني منذ حروبي الفردية الصغيرة لمقبرة الوقت.

يا للعزلة الرهيبة.. كلما اتسعت مساحتها علا منسوب كرهي لكلّ شيء له معنى آني عابر.

يا للعزلة المقيتة.. غالباً تدفع المرء لارتكاب حماقات لا مردود لها..

لدي هاجس قديم لم يصدأ بعد، منذ أول اختبار خدعة في الطفولة كنت فريسته، أنّني سأشهد كيف ستنشق الأرض كبطيخة حمراء وقعت من فوق عربة بائع مُهمِل، وستهرّ الكائنات من جوفها إلى هاوية معتمة، بلا رجعة.

نعم سيحدث ذلك قبل موتي، أنا واثق من حدسي، لذا أدعُ الآراء حول الحياة الكريمة واللاكريمة تمرّ مرور الكرام، لا أبالي، فأكثر الآراء بريقاً وجمالاً لا تقدّم ولا تؤخّر.



الثلاثاء، 27 يونيو 2017

حيز واسع من الهشاشة








محمد جيجاك

    
لا أعلم إن كان تاريخي الشخصي أسود أو أبيض أو رمادي أو لا شيء!
ما أعرفه أنني أربعون عاماً في وطني كنت مضموم الحراشف كسمكة ميتة
كنت أجيد الابتسامات الرمادية وأرميها بسخاء لكل عابر بي، مفترضاً أنّ ابتساماتي تفي بأغراض كثيرة، منها.. تعفيني من الثرثرة والخوض في التفاصيل الممّلة حين سرد حكايات فاقعة بأحداثها.
في أعوامي الأخيرة صرتُ أقود شرودي المستحوذ على كل أوقاتي للغوص في عتم ذاكرتي، بالأمس مساءاً وأنا جالس قرب نهر صغير تخترق غابة متعددة بأنواع أشجارها، راقبت سنجاباُ يقفز من حجرة لأخرى بلا هدف، أو خيّل لي أنه يفعل ذلك بلا هدف، فجأة أبصرتُ رأس الخيط في ركن قصيّ من ذاكرتي، سحبتُ الخيط حتى آخر النفق المعتم، لأكتشف أنّ سجّلي الشخصي مليئ بالبلاهة واللاهدف والسمّو الخلّبي.

***
للكلمات الدّالة حلقات وصل، طوبى لمن نسج بها حبل مشنقته
***
لو كان لي حلم لسعيتُ إلى تحقيقه، وأرحت كل أصدقائي من ثرثراتي .

***

ما زلت أندهش من قاضٍ يصدر حكم الإعدام بحق انسان حيّ !

***
حين تكون وسط غابة وبلا بوصلة، كل الجهات تعني لك الشمال

***
حين نزحتُ من بيتي وللأبد، لم أودّع أحد
وقفت في منتصف الشارع مثل أبله يدوّر رأسه كحرباء لعلِّي أُبصرعابراً ألوح له
كان المطر غزيراً جداً وصوت الرصاص أيضاً
تفاجئت بأنّ الذين كنت أحبهم من جيراني كانوا يحبّون اللعب بالرصاص أكثر من حبهم للمطر !
  


وحي برائحة العَفَن


                                                   
                                                
           

    - محمد جيجاك -


قبل اسبوعين اجتاحتني موجة من الاحباط الغبي، الواسع النطاق، شردتُ ليومين، استحال ذهني لفضاء مليئ بالهواء الساكن، لم أستطع أن أعثر فيه عن معلم أفسّر به احباطي. تحسّست جسدي إذ يَرشَح من مساماتي سائل له مذاق غريب، قريب من مذاق العنب على تخوم تعفنه !
 بعد صفنة طويلة فجأة خطر لي كتابة رواية.
 يقال: الإحباط بلا سبب واضح قد يكون تراكم لشحنات ابداعية يتعثر المرء في إفراغها ؟
 تزامن التفسير الأوليّ لسبب احباطي  مع رأي شائع حفظته عن أصدقائي الكتاب والفنانين “من الألم تولد الكتابة”، وبعضهم، الأكثر تثاقفاً، كان يقول “ القلق أرض خصبة للإبداع”.
 قبل البحث عن فكرة الرواية المزمع كتابتها، جهّزت غرفة خاصة بمعدّات الكتابة. أرغمتُ ابنتي على إعارتي طاولة دراستها، أقنعتها بكتابة وظائفها على الأرض، كما كنا نفعل ونحن صغاراً في بلادنا، أعطيتُ ابني ذو العشر سنوات ثمن بلايستيشن كي يتخلى عن دوره الثلاث ساعات في اليوم لإمتلاك الكمبيوتر المحمول الوحيد في البيت، ترجيت زوجتي لساعة حتى أقنعتها أن تترك لي الغرفة وتنام في غرفة أحد ولدينا، صنعتُ درباساً محكماً لباب غرفتي، بحيث يمكنني قفله من الداخل، كي أكبح فضول زوجتي في استطلاع وحدتي بين فترات متقاربة. 
في اسبوع واحد كتبتُ أربعين ألف كلمة، من حيث لا أدري تدفقت المفردات كسيل عارم على صفحات "الوورد" أمامي، جارفاً في الوصف المتألق، كل الضحل الطافح على مخيلتي، وأيضا الأكثر ضحالة في خفاء لا شعوري. شخصيات روايتي ناس واقعيون بالمطلق، عشتُ معهم في كل مكان، سافلين، مبتذلين، منحطين، القليل منهم طيبين. عملتُ على عكس ما يعمله الكتّاب الكبار، لم أقتفي فرص احتدام المواقف في الأحداث، لأطلق موعظة أخلاقية، تكشف نبالة غايتي من الكتابة الأدبية، تركتُ شخصياتي تقول ما تشاء، كأنهم على مركب بلا مقود ولا مجاديف، في وسط البحر.
 أغلقتُ صفحة " الوورد " بعد حفظها في ملفّ سرّي للغاية، ثم رحلتُ في نوم عميق لأستقيظ بعد يومين، معوّضاً ما فاتني من نوم كافٍ خلال اسبوعي الإبداعي بإمتياز. تجسست أحوال جسدي، وجدته مرتاحاً، صاحياً، نشطاً، مخيلتي خالية بالمطلق، لا فصاحة لصور ولا ضباب يحجب عني المشهد. تأملتُ طويلاً بياض الثلج عبر النافذة، كان بياضاً فحسب، لا يحيلني لأي معنى آخر، حتى برودة الثلج من خلف زجاج النافذة لم أشعر بها، كما كنت أشعر بها قبل كتابة الرواية!
قبل إعادتي معدات الكتابة لأصحابها، دعوت زوجتي للدخول لأخبرها بفرح طفولي أنني أنجزتُ رواية من 200 صفحة بمقاس A4. ابتسمت زوجتي بلامبالاة وقالت: كان عليك فتح نافذة الغرفة، رائحة عفن السجائر والقهوة لوّثت كل محتويات الغرفة؟  أغلقت الباب في وجهها، عدتُ لروايتي منكسر الخاطر من أول قارئ مفترض، سخر سلفاً مما أنجزته، حتى قبل قرائته.
في أول مراجعة لما كتبته خلال اسبوع حذفتُ عشرين ألف كلمة، سخرتُ من نفسي قائلاً: من أين أتتني كل هذه الثرثرة؟ رغم أنّ كل عابر بي يصفني بالرجل الصامت!
في المراجعة الثانية حذفتُ عشرة ألاف كلمة. لم أأسف على هدر تعب سبع أيام، تذكرتُ حكاية فيكتور هيغو بأنه أعاد كتابة الفصل الأول من روايته البؤساء مائة وأربع عشرة مرة حتى استقام به المعنى المراد. إذاً من أنا حتى أبخل بحذف كل ما لا معنى له ؟
في المراجعة الثالثة حذفتُ خمسة ألاف كلمة. امتلئت سلّة المهملات بالكلمات الشاعرية وأسماء شخصيات ثانوية، حتى أسماء نساء جميلات ومثيرات. شعرتُ أنني حين كتبت كل هذا الهراء كنت مسلوب الوعي لصالح اللاشعورالابداعي الذي تحدث عنه أصدقائي المبدعين!
 في المراجعة الرابعة حذفتُ كل شيء، أبقيتُ على العنوان فقط. تأملتُ العنوان ليوم كامل، عبثت بترتيب مفرداتها، تقديم، تأخير، وهكذا حتى  بزوغ الفجر، قررتُ إنهاء المهزلة.
 نشرتُ العنوان على صفحتي الفيس بوك “ كائن لا يحتمل صمته، لا في احتشاد الكائنات حوله ولا في عزلته”
بعد دقائق من استقطاب المنشور بضع لايكات من المعجبين العميان كتب أحدهم لي  تعليقاً :
- منشورك مقتبس..لا بل مسروق بطريقة مشوّهة

                                                                    



تشوهات خُلقية

                         



  محمد جيجاك


كم هو محبط ..
 أصفع وجهي على المرآة
 تتحطم المرآة ويبقى وجهي على حاله
 مشوهاً
 بلا ألم !
***
لم يسبق لي أني بكيتُ
في قصر الزعفران قال القسّ الذي يعمل كدليل سياحي:
في هذا المكان أسرار عن صفات الله، وأين يقيم، وماذا يعمل
 استمعت إليه بصمت
 شردتُ عن رصانته المتبجحة
حين التقاط صورة تذكارية في معبد النار
استقام القسّ بظهره المحني أمام الكاميرا
وأنا بكيت كأم ثكلى
***
لو أحصيتُ الخطوات التي قطعتها بحثاً عنكِ
لحصلتُ على رقم كبير جداً

على سعة خطوة واحدة
أو مسافة خطف قُبلة مباغتة
***
للكلام رسن الحمار..
 قل ما تشاء
بإمكانك الإيمان بالنقيضين في آن واحد

في المدينة حشد وافر من الغوغاء
 عش ألقكَ طولاً وعرضاً
أنت " بطل من - أبطال- هذا الزمان"
***
لا أستطيع أبداً تخيّل أن هناك غزال ذكر
ولا عصفور لا يبيض كأنثاه !