الخميس، 29 يونيو 2017

للحرب ضفة واحدة








محمد جيجاك





طوال الحرب في بلدي الذي هربت منه -كانت ثورة ثمّ تحولت لحرب بقدرة قادر- لم أتفوّه بجملةٍ مفيدة، صغتُ عباراتي القليلة _التي تفوّهت بها محرجاً في لحظات حرجة_ بعناية لتكون على مقاس إعلانات مبوّبة عما يجول في داخلي، كانت بوحات أقصر من طولي الموصوف بالقزم لدى زملائي الساسة الذين هم نتاج جينات البغال.

بوحات أخفّ من وزني المقدّر بوزن الذبابة، بمكيال بائعي الكلام في سوق الصحف الصادرة عن أحزاب تشتري أيديولوجياتها من السوق بثمن يقدّر بزاوية الركوع، بوحات أنحفُ من جذع الريحانة بتقدير شاعر لا يعرف من جمال المرأة سوى نحول خصرها، بوحات لم تكن أبعد من أنفي الأفطس الذي هو أكثر “فطاسة” من أنف كونت كونتي.

ما حدث لي من بلادة حين تحوّلت الثورة لحرب كان عوداً حميداً لما كنته قبل الثورة، حيث استعاد زملائي ذاكرتهم عن ضحالة آرائي في الحياة، منها “ذو البصيرة القصيرة كإطلالة نافذة على مقبرة مهجورة”. وهذا ما أعترف به أنا أيضاً، لم يحدث أن عانيتُ -كزملائي على طاولة السكر- من زحام الصور الشعرية في مخيلتي، دائماً كان رأسي كصندوق بويا لماسح أحذية ذو طباع مستهترة بالحياة، لا يهوى من الصبغات سوى اللمّيع الذي بلا لون لكنه يرصّع كل الألوان ببريق مزيف. ذاكرتي قصيرة جداً، لا تتسع لحفظ عبارة قرأتها صدفة على قصاصة سقطت من سلّة مهملات، ولا قول مأثور هرَّ من فم غرّ في الحياة تلقّفها بعناية من كتاب عابر بين يديه بعد أن اقشعر بدنه من الدهشة. جدران رأسي الداخلية كجدران غرفة نومي خالية من المقولات المنجزة وحكم المشاهير، والأمثال الشعبية، ولم أدقّ فيها مسماراً لأعلّق على مساحة الفراغ صورة زعيم سياسي أو أديب أو فليسوف مجنون.

في الحرب، اكتشفت أن لا فسحة للمهادنات في دماغي، لن ألوّثها بأثار أقدام -نظيفة وقذرة- لأصدقاء، لأقرباء، لعابري كلام، موتى وأحياء، ولا حتى لأنفاس امرأة عابرة بجسدها ذات تيه وضعت رأسها على مخدة سريري لتبكي ندماً على خداعها لرجل أحبّته ذات طيش. لم أفكّر لحظةً باقتناء لوحة فنيّة، رغم إعجابي بالسورياليين وهواة الرسم على جدران الأنفاق، ولا مؤلفات موسيقية، رغم حاجتي اليومية لسماع توفيق الباش وعارف صاغ ورعب ريتشارد فاغنر. لم يستهويني سماع مشاهير الملتزمين والسوقيين من المغنين (الكلام يفسد الموسيقى) لم يخطر ببالي يوماً أنّني بحاجة لساعة حائط رخيصة حتّى لو كانت بلا منبّه، ولا لزهور أزيّن بها “درابزون” شرفتي.

في الحرب، ترسّخت قناعتي القديمة، على أنّني لست بحاجة ليفهمني أحد، ولا أن أفهم أحداً.

طوال عمري لم أكن لاعباً في ميدان تبادل الآراء، لعبةٌ سخيفة يمارسها الحمقى لتزجية الوقت، كم هم عديمي الإحساس! رغم قراءاتهم لألاف الكتب لم يدركوا أنّ الحرب لم تتوقف لحظة عبر التاريخ، وأنّ زمن الحرب كزمن السلم لكن بدقات مزعجة لعقارب الساعة، فيا قارئي.. لا تعوّل على ما أقول، كي لا تحرجني بردّ الجميل وأعوّل على ما تقول.

خوفي من خوض الحرب لم يسُقني نحو العزلة، كما هو شائع لدى المقرّبين منّي، إنّما جملي القصيرة ساقتني منذ حروبي الفردية الصغيرة لمقبرة الوقت.

يا للعزلة الرهيبة.. كلما اتسعت مساحتها علا منسوب كرهي لكلّ شيء له معنى آني عابر.

يا للعزلة المقيتة.. غالباً تدفع المرء لارتكاب حماقات لا مردود لها..

لدي هاجس قديم لم يصدأ بعد، منذ أول اختبار خدعة في الطفولة كنت فريسته، أنّني سأشهد كيف ستنشق الأرض كبطيخة حمراء وقعت من فوق عربة بائع مُهمِل، وستهرّ الكائنات من جوفها إلى هاوية معتمة، بلا رجعة.

نعم سيحدث ذلك قبل موتي، أنا واثق من حدسي، لذا أدعُ الآراء حول الحياة الكريمة واللاكريمة تمرّ مرور الكرام، لا أبالي، فأكثر الآراء بريقاً وجمالاً لا تقدّم ولا تؤخّر.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق