الخميس، 10 أغسطس 2017

ظل اللامعنى







محمد جيجاك

بقليل من المقاومة أصدُّ ريح عاصفة
أما رائحة عنقكِ
يلوّحني في الفراغ  كفراشة الضوء

.....

سيرة حياتي كمربعات تسلية كلمة السرّ
 أشطب وأشطب 
أسماء العابرين بي صدفة وعن قصد
 أسماء الأمكنة التي مررت بها عنوة أو طوعاً
أسماء المشاهير في التاريخ و الحاضر والمستقبل
أسماء الحيوانات والنباتات وورود الشرفة
ما من مربع مفتوح ومغلق ولم أمر به  
لم يبقى حرفاً غير ملوث بحبر قلمي
ولأنني لم أعثر على كلمة السر في حياتي
مسحت بالجريدة حذاء الوقت 
لأنتعله بأناقة جديرة بي

...... 

يدهشني الكاتب الذي يتذكر كل ما كتبه 
يوحي لي أن له رأس كثلاجة تحافظ على البضاعة الفاسدة

.......


أكتب الشعر أو قصة أو رواية
 حين ينضب انفعالي اقرأها لأكتشف كم من السخف العميق كتبته
 ثم أرميها في سلّة المهملات بلا ندم، كما أفعل مع نتاجات أصدقائي 
هل سيختلف شيء؟
أعتقد أن شيئاً لن ينقص من روحي حين أخسر نفسي ككاتب سيختص في بوح الهراء

...... 

ليس لي ملامح واضحة 
 لأن قلبي رصين كرمل جُرف دهراً حتى مستقره

......


حزني لي 
لا شأن لك به 
يمكنك إلقاء نظرة وتعبر 
كما تعبر بمقبرة نائية
 مبتسماً 

.......

أحفر في ظلّي عميقاً
لأستقر في عتمة آخر النفق

.....

لا أترك بابي مفتوحاً وأنا في إنتظار أحد 
 إن لم يكن زائري لصاً
سيطرق الباب إن كان مفتوحاً أو مغلقاً
.......

حين أصل إلى مفترق طرق أدرك أن للجهات معنى قاتل

......

في المدينة التي لا أصدقاء لي فيها 
ابتسم لكل الغرباء 
حتى لو قالوا عني أبلهاً ..
أعذرهم 
لأن الابتسامة كلام 
والكلام بضاعة رخيصة

....... 

حين أكتب ليس غايتي قول أنني كتبت هذا 
الكتابة كعواء الذئب
نداء لوليمة فاجرة
إنذار لحلول كارثة 
لهو لتسجية التيه

.........


 لن أهدر الدمع في قراءة مآسي البشر
حين أخلو لنفسي
أهدر نهراً من الدمع على كل صورة في ذاكرتي

.......


كلما تهتُ عن شغبي لجئت لقراءة  كتاب
القراءة رسن الإنسان 

......


يطير العصفور حين يتعب من استراحته على غصن الشجرة




Ermïtê






محمد جيجاك

لم أكن أواعدها أبداً، كما العشاق الملهوفين، لا في الحدائق والكافتريات، أو المطاعم المنزوية، كنت دائم الطمأنينة من أنني سأراها في يوم النوروز، كما كل نوروز في الأعوام  السابقة.
لم يكن الزحام الكبير في النوروز يعيقني بالعثور عليها، كانت كباقة ورد، تنسج خيطاً من طيبها لترشدني إلى ركن تواريها
كانت تطوف بالحفل الصاخب كحاجّة شديدة الورع، وأنا أطوف حولها كمتصوف زنديق، منفصل عن الزمان والمكان.
 أصادفها وجهاً لوجه بين شجيرات البلوط، نبتسم لبعضنا كما الابتسامات السابقة، من كل نوروز مات، ثم نتدحرج على الصخور المغسولة بمطر طازج، كسنّورين اتفقنا همساً، على أن للورد رائحة أذكى من رائحة دم الضحية،  أقطف لها نرجسة بنفسجية فتردها لي نرجسة صفراء ...
لا نثرثر في أمور نفهمها، ولا نفهمها، نرتاح على حافة مطلّة على واد عميق، نضحك كجروين ناضجين، يبذران الوقت الثقيل، لهواً   فجأة تتحرش بصمتي وتسألني كغريبة عن وطنها:
ما اسم تلك القرية؟
 خاصا
 وتلك ؟
 اصلاحية
و تلك ..وتلك ..وتلك ..
ثم تضغط على يدي قائلة بحزن:
- أريد أن أجوب العالم كله ذات يوم
منذ ثلاثين نوروز تَركتْ وتركتُ أثرنا هناك، ليجوب كل منا عالمه، ولا نوروز في أي مكان كي أتربص بفرصة برائحتها.





الخميس، 29 يونيو 2017

مقامر من الطراز السيء






محمد جيجاك
كنا حين ينفد صبرنا حتى ينقطع التيار الكهربائي لنتوقف عن العمل ونهرع مسرعين لمقهى “جميل هورو” القريب. كنا أربع مراهقين شغيلة ورشة الخياطة في حي الشيخ مقصود الغربي. نمكثُ في المقهى لساعات حتى يصحى ضمير موظف شركة الكهرباء ويقوم بإعادة توصيل التيار لنعود للعمل منهكين من اللعب وشرب الشاي الزنخ وتدخين عشرات السجائر. زميلنا خمشان صاحب أقذر لسان بيننا، كان يشتم أم موظف شركة الكهرباء في لحظة قطعه لتيار الكهرباء ولحظة وصله، أمّا أنا الذي كنت الوحيد بينهم أعرف القراءة والكتابة كنت أشتم الحكومة بدون ذكر اسم رئيس البلاد.
في أول يوم قطع فيه التيار الكهربائي ودخلنا المقهى لعبنا لعبة “التريكس” كتسلية لقضاء الوقت، لكن لعبة التريكس لا تستغرق أكثر من ساعة أما انقطاع الكهرباء يطول لساعات مما أجبرنا على تكرار اللعبة أكثر من مرّة فمللنا منها. في اليوم الثاني لعبنا لعبة “الكونكان” وجدناها تفتقر للمتعة وأنها لعبة حظ ولا يلزمها الكثير من الذكاء ومهارات المناورة. في اليوم الثالث لعبنا لعبة “البلوت” اللعبة التقليدية لعجزة الكرد، لم أكن أعرف قوانينها، تعلمتها على عجل، فتركناها بسبب أدائي السيء. في اليوم الرابع اقترح زميلنا خشمان أن نلعب لعبة “الفتوح بالعشرة” السريعة والخفيفة، وأضاف لاقتراحه شرطاً آخر ليضفي الحماس على اللعب، بأن الاثنان الخاسران سيدفعان ثمن القهوة عن الاثنين الرابحين أيضاً.اتفقنا وتحوّل لعبنا من اللهو المستهتر للمنافسة الجادة، فلم نعد نهتم بأمر الكهرباء إن طال انقطاعها أو قصر.
مضى شهر على الحكاية المأساوية للكهرباء، خلالها أصبحنا رواداً مياومين في المقهى، نلعب القمار وننتظر الحكومة حتى تعالج العطب في محطة توليد الكهرباء. كانت الحكومة تتحجج بشحّ ماء نهر الفرات في الصيف الحار، وتركيا تقول من حقها بناء سدّ أتاتورك العظيم والإستفادة من ماء نهرها والفائض عن حاجتها ستتركه لجيرانها، أما إذاعة الهيئة البريطانية من لندن التي كنت مولعاً بسماعها، لأنها أكثر إذاعة تأتي على سيرة الكرد في تركيا وايران والعراق، كان لها رأي آخر حيث كررت لأكثر من مرة أنّ تركيا بَنت سدّ أتاتورك لتحجز ماء نهر الفرات عن جارتها سوريا وأنها لن تطلق سراح الماء حتى تتوقف السلطة السورية عن دعمها للآبوجيين. بينما كانت الحكومتان تتبادلان الاتهامات وحبك المؤامرات ضد بعضهما كنا نرتقي بلعبنا لورق الشدّة صوب الاحتراف أكثر. كنت الوحيد من بين زملائي الثلاث أتابع أخبار سورية عبر محطات إذاعية خارجية، فكلما نقل الأخبار عن الآبوجيين أنهم نفّذوا عملية عسكرية ضد الجيش التركي قلت لزملائي اليوم ستنقطع الكهرباء ساعات إضافية أخرى.
عقب كل عملية عسكرية للآبوجيين صعّد كنعان ايفرين لهجة تهديده لسوريا، بينما حافظ الأسد ينكر بلغة باردة دعمه للآبوجيين، في المسافة الزمنية بين زعيق ايفرين ونعيق الأسد صرنا زبائن رسميين لمقهى القمار الصغير القذر.
تطور لعبنا من التسلية لدفع ثمن القهوة ثم لدفع ثمن الغداء “سندويشة فلافل على الأقل” ثم ارتقينا لذروة المنافسة حيث يراهن كل منا على النقود التي في حوزته والرابح يحتفظ بالنقود ويرحل لحال سبيله.
في التجربة الأولى للعب القمار وفق الأصول السرّية المتبعة في المقهى خسر زميلنا مستو خمسين ليرة، أنا لم أخسر ولم أربح شيئاً، ريزان خسر عشر ليرات، الرابح الوحيد كان خشمان، صاحب الاقتراح الذي لا يحمد عليه بتحويل التسلية لفعل منافسة جادة. حاول مستو أن يستدين من أحد ليكمل اللعب فلم يجد من يديّنه، شحب لون وجهه، صارت سحنته غامقة كبقعة القهوة الجافة على الشرشف البني الممدود على الطاولة الحديدية، ترقرق الدمع في عينيه، تأملت يديه ترتجفان من القهر، بدا قلبي ينقبض تعاطفاً مع مأساته، لكنني تماسكت ولم أديّنه المائة ليرة التي أخفيتها في الجراب داخل حذائي، كي لا يسهل عليّ إخراجها في لحظة انفعال. وكنت قد حلفت اليمين قبل الشروع باللعب بأنني لا أملك سوى عشرون ليرة. خشمان هو الذي ربح كل نقود مستو وريزان، وأخذ يضحك كالقحبة بملء شدقيه، ساخراً من الخاسرين. كان من الطبيعي أن يربح خشمان، لقد ورث من أباه مهارة اللعب بالقمار وأيضاً أخلاقه الوضيعة. شككنا بأن خشمان كان يغشّنا أثناء اللعب لكننا لم نتمكن من القبض عليه متلبّساً، وشكنا مرده أنّ أباه طُعن بسكين حتى الموت في المقهى بسبب غشّ مارسه أثناء اللعب. حلف خشمان أن أباه لم يغش إنما ربح مالاً كثيراً في ليلة رأس السنة، فراح يضحك فرحاً لحسن طالعه في العام الجديد لكن الخاسرون قتلوه غيظاً، أما جميل هورو صاحب المقهى “المطرب الزجلي المعروف في عموم كردستان” قال كشاهد عيان على حادثة قتل أبي خشمان ( أنه أكل ورقة ختيار الكبّة خفيةً أثناء اللعب على أنها فتات خبز منسي في جيبه ليتخلص من ورقة زائدة تعيقه على فرش الورق من يديه، حين انتهى من بلع فتات ختيار الكبّة فرش يده معلناً فوزه بتلة النقود الورقية على الطاولة.
لم يكن مشهدا مستو البائس وخشمان المتعجرف ليدفعانني للتريث والحذر في اللعب بأخلاق مقامر جبان، إنما اخترت مسبقاً أن أكون مقامراً من الطراز السيء، ذلك الطراز الذي يراهن بجزء يسير من نقوده، إن خسر ترك اللعب، وإن ربح مبلغاً بسيطاً أيضاً ترك اللعب بذريعة ما. ذات مرّة قال لي عجوز مقامر كان يراقبنا من الطاولة المجاورة: أنت لست بمقامر محترم. قلت وكيف يكون المقامر المحترم؟ أجاب : المقامر المحترم لا يخفي نقوده كي لا يراهن عليها إن خسر. مجّ سيجارة الغازي بين اصبعيه النحيلتين بعمق، نفث الدخان في الفراغ وأضاف: لو كنت مكان زملائك لطردتك من المقهى نهائياً. ملاحظة العجوز أحيا شعور الغيظ لدى زملائي، حيث كانوا يضيقون بقناعتي التي لا تليق بقمرجي غرّ، لكنهم لم يتمكنوا من إيجاد تعبير مناسب لتوبيخي، كانوا مفرطين في حماسهم التنافسي. أما أنا كنت أضحك طوال الوقت لا مبالياً، بين الفينة والأخرى أشتم كنعان ايفرين وحافظ الأسد اللذين ورطانا بهواية قذرة لا نهاية لها.
كان مستو يخسر غالباً، لسبب نقاء نيّته وقلّة خبرته في احتساب الورق، فيستدين من خشمان النقود التي ربح نقوده ليتابع اللعب من جديد على أمل استرجاع ما خسره. بعد بضعة أيام رزح مستو تحت رقم كبير من دين مستحق لخشمان. توجست بأنّ تسليتنا تسير نحو عاقبة وخيمة، طلبت التوقف عن اللعب نهائياً، وارجاع كل النقود للخاسرين، ونعود للعبة التريكس حتى يحل الاشكال بين ايفرين والأسد ويرتفع منسوب ماء نهر الفرات ويعود التيار الكهربائي لمجراه الطبيعي. كنت قد ربحت خلال شهر ما يقارب المائتي ليرة أعدتها لريزان الذي لم يكن مبالياً بالخسارة أو الربح لكنه وافق على التوقف عن هذه المهزلة، وطلبتُ من خمشان أيضاً أن يعيد لمستو ما خسره، رفض خشمان الفكرة كما توقعت. اقترحنا أنا وريزان أن يعفيه من الديون المتراكمة عليه في أضعف الإيمان، فهو زميل لنا ولا يعقل أن يدفع راتب ستة أشهر من أجل مزحة. ابتسم خشمان وقال بخبث:
- سأعفيه من الديون بشرط.
- وما هو؟ سألته
- أن يتنازل لي عن عشيقته زينب.


حدّقت في عينيه للحظات، استشفيت من انكسار نظراته أنه نذل وما طلبه لم يكن مزحة سمجة. استدرت عنه وبصقت في فراغ العتمة التي تسود الورشة حين تنقطع الكهرباء.

لا سماء فوق قبر مفتوح






محمد جيجاك

1


المرأة التي تجالسني الآن في مقهى على رصيف بحيرة لوتسيرن، جميلة جداً. كلما دارت وجهها عني لتتابع عراكاً طارئاً بين نوارس ضجرة، أختلس النظر بتمعن لتفاصيل وجهها، لا أحدّق في وجهها بفظاظة كما أفعل مع نصف الجميلات أو أدنى.
انتبهت "سابينا" لحدّة نظراتي اللصيّة لوجهها المائل نحو نورس نزق يمنع أصدقائه وصديقاته من الهبوط على مقربة منه، هزّت رأسها بإيحاء ليأسها عن إيجاد تفسير لرعونة هذا النورس، ومن أين يستمد شرعيته في بسط سلطته على هذه الرقعة من الرصيف! نظرت في عيني مباشرة، لثانيتين فقط، ابتسمت وطلبت منيّ قول ما أشاء في وصف حضورها الآن. في لحظة طلبها ترائ لي طيف صورة سالومي حين اقتحامها قاعة المحاضرة بزخم جمالها فتلعثم فرويد وأغمي عليه كمراهق يفاجئ بإكتشاف سر صادم. انحرف ذهني لتخيّل اسلوب ما لنهاية الحياة. صفنتُ لساعة على الأقل، فكّرت بأشياء عبثية كثيرة، منها، أنني أكره المبالغة في وصف أي ظاهرة ملفتة، وإن فعلت محرجاً، خرجت المفردات من فمي مرتبكة ركيكة الأداء، متوجساً أن ما أقوله يوحي بالتملّق أكثر من الصدق. الحياة علّمتني أنّ الشطّاح في وصفِه له عقل ذو شطرين، شطر للمدح والآخر للذمّ، فلا حرج لديه من رمي الموصوف من الشطر الأول للشطر الثاني وفق احداثيات المنفعة منه.
ساد الظلام، ضياع تفاصيل وجهها في العتمة أوحت لي بصورة أليمة متخيّلة، قلتها دون تردد مغمض العينين :
أكثر ما سيحزنني في القبر
أنني سأراقب بخنوع صورة وجهك
كيف تأكلها الدود في عينيّ
فتحت عينيّ لأراها عائمة على سفح الماء، وتدعوني للغرق بصحبتها.
2


بالأمس ارتقت شرفتي طابقاً آخر للأعلى، لتصل الثامنة والأربعون من العمر، لم أبالِ بما تعنيه هذه المناسبة في بلد يحتفون بيوم الميلاد كل سنة، كأنه حدث لن يتكرر مرّة أخرى. في وطني لم أحتفل أبداً بيوم ميلادي، لمَ عليّ تغيير عاداتي بمجرد تغيير إطلالة نافذتي ولغة الترحيب للمارة ؟
يوم ميلادي في الوطن كنت أحتفي بنفسي بشكل مختلف عن التقاليد المستوردة، وأفرح لسبب لا يتوقعه المحيطون بي. يصدف أن أتعرض في يومها مرات عديدة لسؤال :
- كيف الحال؟
أعلم أنهم لا يعلمون أنّ اليوم هو يوم ميلادي، أبتسم بلا مبالاة وأردّ:
- نحو الأفضل
البعض يكتفي بقول الحمد لله ويمضي. ثمة من تثيره إجابتي غير المألوفة في بلد التعاسة المفرطة. يلحقني بسؤال فضولي استفساري:
- وكيف سيكون نحو الأفضل ؟ تكرّم علينا وأرشدنا للخلاص يا معلم.
أدير وجهي عنه وأقول بثقة:
- تقدمتُ ميلاً آخر صوب زيارة "حنّان"*، هناك ينتظرني الأفضل الذي أسعى إليه
يبتعد عني متمتماً:
- يا رب ارحمنا
كلّما علوت طابقاً هبط مستوى نظري أربعون طابقاً، غاص تأملي لعمق ألف ميل في الذاكرة
. الأفق لم يكن يعني لي في أي تأمّل أبعد من خطوة ولا أقصر من مدى تبدد دخان سيجارتي في الفضاء اللانهائي. يطيب لي من هذا العلو أنني لا أُبصرُ سواي، صامتاً كصخرة لا يطأها الرعاة لتفقد الرعي، بليداً كقبّرة حبلى برائحة التراب الرطب، خاملاً كقشّ في غابة نائية، من شرفتي التي تغيرت ولم أتغير معها، أستمتع بشغب العصافير كطفل مشلول لا يقدر على المطاردة من شجرة لأخرى على امتداد الشارع الطويل. فقط أتسائل: لما العصافير هنا لا تخاف من نظراتي الوقحة كما في وطني الذي هربت منه؟
هذا الصباح فتحتُ صندوق رسائلي، وجدتُ خمس رسائل تهنئة بميلادي، أربع منها أصدقاء جدد، لا أجيد لغتهم ولا هم يثيرهم معرفة لغتي، معرفتهم بي لا تتعدى أنّي غريب حملتني الرياح إلى قريتهم من عالم آخر، وواحدة من صديقة عتيقة لم تبارح الوطن والحرب، على أمل عودتي والإلتقاء بي مجدداً على رصيف المقهى ذاته الذي دمّر بقذيفة مقصودة.
أجبتُ برسالة واحدة على أصدقائي الخمسة :
" طوبى لذاكرتك التي لم تنس تذكيري بيوم ميلادي .. أنّي بخير.. أحبو نحو الأفضل "

...........................................
* زيارة حنّان : مقبرة شهيرة في منطقة عفرين





دودة تحلم بقوس قزح في العتمة




محمد جيجاك 


الوقتُ جثّة، أنا دودةٌ مشلولة
أجوبُ الجثّة زحفاً شُرفة.. شُرفة، كرحالة يبيّت نوايا خبيثة في البحث الشغوف عن أسرار المدينة، حين يدبّ الإحباط بي أنكشُ ذاكرة الجثّة بأظافرِ قطّ محاصرٍ بالموت، كلّما طَفت صورة على السطحِ التهمتها.. أكلتُ صور مزابل حيينا الشعبي، ساحات اللعب والمرح في الطفولة، أكلتُ صورة استاذ اللغة العربية وهو يرتّب نظّارته السميكة، أكلت الصورة الخلفية لأنسة الفرنسي القبيحة الوجه، أكلتُ صورة الحائط الذي كتب عليه الكسالى من الطلاب ألف رسالة ركيكة لتسعين فتاة في ثانوية طارق بن زياد، أكلتُ كل االخرق المدوّنة عليها الشعارات الوطنية والقومية والأممية، نظّفت ساحة سعدالله الجابري من كل نفايات الحملات الإنتخابية المزيفة، أكلتُ صور القبّرات والبلابل والحسون والصيصان الصفراء المتسكعات في حواكير القرية. انتظرتُ بشغف أن ينمو على جسدي العاري زغب، زغب يراقصه هواء صيفي فيطول كريش دجاجة جدتي، ربما جناحين صغيرين أيضاً، منقار ناعم على سعة حبة قمح، ساقان قصيران، أسير بهما مغمض العين..
تلوّث بياضي بألوان كل الصور التي أكلتها.. كنتُ آمل أن أصير قوس قزح يقوّس ظهر العَتمة، إنّما الشوائب المتعشعشة في لقطة أصبغتني بلون قاتم على هيئة صرصار أمريكي أعمى.
الوقت جثّة، أنا دودة نظيفة
جشع الذباب الأزرق شلّ حواسي الخمس، أزرقه المبهر خدش سعة عيناي في العتمة، نسج من خرائه رادءًا محكماً للجثة، لم يهبني حتى مساحة رأس دبوس أتذوق منها ما بقي من حلاوة الوقت، فقّس بيوضه في كل مسام، حيث أضع قدمي ينهار اللحم ليحدث فجوة من العدم. الذباب الأزرق من هواياته وطأ الأزهار الفاقعة في الربيع وإن شمّ رائحة جثّة ترك ألوان الربيع وطار إليها ليحوّلها إلى جيفة نتنة تهرب منها حتى نسور الكندور، طنينه في هدوء العتمة صمّ أذناي، كم يشبه طنينه ثرثرة ثريّ القرية مع رجل الدين في مجلس عزاء فقير، يا لهم من حمقى.. لهم أجنحة الذباب ويتجادلون طوال الوقت عن صيغة المساومة مع الحياة !
الوقت جثّة، أنا دودة شاردة

دائماً لا أجد الرأي السديد المناسب لي إلّا بعد فوات الأوان، أهزّ رأسي على عجل مع ابتسامة بلهاء، يظنّ سائلي أنّي موافق على ما اقترحه! وهكذا.. أصدقائي السفهاء كثر، ألصقوا بي صفة الأبله المبتسم دائماً. أبتعد عنهم خطوتين من الخيبة، أسخرُ منهم، وأضحك بألمّ كأبله عاجز عن ردّ الصبية عنه، يدمع بحرقة مدركاً تماماً عمق الضحالة في معنى كل شيء.

صورة رجل مفقود







محمد جيجاك

هذا المساء في جلستي اليومية على رصيفِ البحيرةِ سأحتالُ على المدى الشاسع، أقلّصُ بُعدَه المديد لحتّى ملامسة ملامح وجوه الشخوص في ذاكرتي القصية. سنتان أرتادُ هذا الرصيف الكئيب، أبحلقُ في الغياب ساعات، كثور مترهل، مشدوه من كاسر يتربص به، أجني لسعات هواء قطبي بارد، يتغرغر الماء في سخونة عينيّ، يتغبّش سفح البحيرة، أُخفق باستحضارِ صورة نقيّة لأكسر بألوانها كأس عرقي الليلي. كل ليلة حين تتوارى النوارس في أوكارها، أتوارى مثلها في أزقة المدينة، جعبتي خالياً حتى من جيفة الكلمات، لأسدّ بها رمق وحش الوحدة الذي يحاصرني أينما ذهبت :
أيها المدى
تكوّر..لمغص طارئ في أحشائِك على الأقل
لي معارف كثر ضيّعوني في عبطة الثورة
قد يبحثونَ عن أثرٍ لي بين ركام الأزقة
يتربصون بي:
"سيمرُّ من هنا هذا الصباح"
" سيعود من هنا في المساء"
"من هنا كان يسير مطأطأ الرأس إن ضاق به العالم"
أيّها المدى
كُن حبلاً متيناً
من قنّب أو حرير أو ضوء مصباح
أشدّك من آخر ما تبصره عيناي في عتم البئر
عيناي مغمضتان، أفتّش جيوب الفراغ بحثاً عن رأس الحبل لأشدّه أو يشدّني إلى أقصى ما يريد.
ربت عابر بلطف على كفيّ ضاحكاً متسائلاً :
- هيييي..هل عُميتَ أم أنّك تمارس اليوغا ؟
فتحتُ عيناي في منتصف الصعود الوعر صوب السماء، إذ بصديقي الايراني "قدرة الله " بضحكته الثعلبية فاجأني بحضوره، كالعادة كغرّ حديث العهد بتدخين السجائر مدّ يده على الفور إلى جيبه، أخرج كنزه الصغير، ضيّفني حفنة خضراء كوجبة دواء لمعالجة الخمول الذي وجده في صوتي :
- خذ حفنة ضِعها بين شفّتك وأسنانك
- ما هذا ؟
- هذا طارد للصور من ألبوم الرأس. أعرف ما بك، كنتُ مثلك، جلستُ على هذا المقعد خمس سنوات ولم أجني سوى الخراب لروحي.
" قدرة الله " يحكي بروح مرحة، بينما كنت أسير فراغ مستبد على ذهني، تناولتُ الحفنة الخضراء الرطبة، تأملتها بلا أدنى فكرة مسبقة عنها.
حدّق في وجهي ملياً، مسكتشفاً جهلي في التعامل مع هذا الدواء، قال بحزن:
- لا تفكّر بشيء، انسَ الماضي، ابدأ حياتك من جديد
حشرتُ الحفنة الخضراء بين شفّتي العلوية وأسناني الصفراء، رحتُ أترقب ماذا سيحدث لي وللمدى الذي أنتظر انقشاعه منذ أربعين سنة.
صديقي "قدرة الله" راح يشاغب مع النوارس على الرصيف العريض، ينثر لها الرذاذ الأخضر، تشتمّ النوارس مذاقه المرّ، تزعق مستنكرة حيلة "قدرة الله" وتفرّ بعيداً إلى عمق المدى. يضحك "قدرة الله" كممسوس ابتكر لعبة مسليّة، التفت إليّ قائلاً بتقطع في أنفاسه :
- هذه النوارس لا تعاني العطب في ذاكرتها مثلنا، هي لم تهاجر من المحيطات إلى هذه البحيرة الصغيرة.
ويتابع ضحكه كفاجر فاشل في اصطياد فريسة.
دَنَت منه فتاة متوسطة الطول، سوداء الشعر، شاحبة الوجه، مهلهلت اللباس، مدّت يدها تطلب منه حفنة من ذاك الأخضر الرطب الذي ينثره للطيور. هَمسَ " قدرة الله" في أذنها وهو يشير إليّ، التفت الفتاة إليّ وتقدّمت صوبي لتجلس بجواري. مرّ خمس دقائق من الصمت بين ثلاثتنا، ذوبت الفتاة الحفنة في فمها، شرعت تعرّف عن نفسها:
-اسمي ديانا، أمي كولومبية أبي فنزويلي، تزوجتُ في الثامنة والعشرين من عمري من رجل سياسي معارض لتشافيز، في يوم ميلادي الثلاثين قررنا أن نحتفل سوياً بدون أصدقاء، أول المساء خرج زوجي " كارلوس " ليبتاع بعض الشموع الناقصة، لكنه لم يعود لحتى الآن، منذ عشرة أعوام أجوب العالم بحثاً عنه. أخرجت صورة مشوهة المعالم من مفرق صدرها، دعتنا نمعن النظر فيها بالتناوب، ثم سألتنا إن كنا نعرفه أو صادفناه في مكان ما، طالما نحن أيضا جُبنا بلاداً كثيرة؟
تبادلنا النظرات بدهشة أنا و"قدرة الله"، كل منّا خمّن أنّ صورة الرجل هي صورته قبل عشر سنوات. حدّقت ديانا في وجهينا بعينيها الغائرتين، بحثاً عن فكرة ما في ملامح كل منا أو في مخيلتها؟ فجأة قهقهت بصوت عال وقالت :
- " كدرة الله " أعطني حفنة أخرى، حين أنتهي من تذويبها سأخمّن أيّ منكما هو صاحب الصورة؟